عمود أكاديمي

عالم ما بعد ترامب

| د. باقر النجار

لم‭ ‬يأت‭ ‬رئيس‭ ‬أثار‭ ‬هذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬القبول‭ ‬والرفض‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الداخل‭ ‬الامريكي‭  ‬والخارج‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الرئيس‭ ‬الامريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬المنتهية‭ ‬رئاسته‭. ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬سنواته‭ ‬الاربع‭ ‬التي‭ ‬أعتلى‭ ‬فيها‭ ‬كرسي‭ ‬قيادة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬سنوات‭ ‬عادية‭. ‬فهي‭ ‬قد‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬أمريكا‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الخارج‭ ‬بتغيرات‭ ‬أعتقد‭ ‬أنها‭ ‬ستبقى‭ ‬كذلك‭ ‬لبضع‭ ‬سنين‭ ‬قادمة‭.‬وهي‭ ‬تغيرات‭ ‬بدت‭ ‬سلبياتها‭ ‬خصوصا‭ ‬على‭ ‬الداخل‭ ‬الأمريكي،‭ ‬وفي‭ ‬سنته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬من‭ ‬الحجم‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬المجتمع‭ ‬تحمله‭ ‬فأخرجته‭ ‬صناديق‭ ‬الاقتراع‭ ‬من‭ ‬السلطة‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬خروج‭ ‬ترامب‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬كان‭ ‬لأسبابها‭ ‬ومتغيراتها‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬كما‭ ‬أدخلته‭  ‬للسلطة‭ ‬فقد‭ ‬أخرجته‭ ‬من‭ ‬أروقتها‭. ‬فسوء‭ ‬إدارته‭ ‬لجائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬تبعاتها،‭ ‬التي‭ ‬أخرجت‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬العمل‭ ‬وأخرجت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الاعمال‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬كانتا‭ ‬السببين‭ ‬الرئيسيين‭ ‬في‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬السلطة‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭ ‬فإن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭  ‬ليست‭ ‬كاي‭ ‬دولة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬فهيمنتها‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬العالميين‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬الدولة‭ ‬الأكثر‭ ‬تأثيرا،‭ ‬وهي‭ ‬تغيرات‭ ‬يمكن‭ ‬تحديد‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬التالي‭..‬

‭ ‬إن‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬أدار‭ ‬فيها‭ ‬ترامب‭ ‬الملفات‭ ‬الدولية‭ ‬قد‭ ‬أثارت‭ ‬علية‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬ردات‭ ‬الفعل‭. ‬فهو‭ ‬في‭ ‬فعله‭ ‬السياسي‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬مصلحة‭ ‬أمريكا‭ ‬“تأتي‭ ‬أولا”‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الاخرى‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬وكما‭ ‬تشير‭ ‬مجلة‭ ‬الفورين‭ ‬أفيرز‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬أكتوبر‭ ‬الماضي‭ ‬قد‭ ‬اثارت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الاضطراب‭ ‬والفوضى،‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬العالم‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬أضعفت‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬أصدقائها‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬أعدائها‭ ‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬أكثر‭ ‬قوة‭... ‬وهي‭ ‬سياسات‭ ‬قد‭ ‬خلقت‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬العزلة‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬نتيجة‭ ‬للطريقة‭ ‬التي‭ ‬تعاطت‭  ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬والملفات‭ ‬الدولية،‭ ‬إذ‭ ‬باتت‭ ‬معلومات‭ ‬حلفائها‭ ‬من‭ ‬الأوربيين‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬سياسات‭ ‬أو‭ ‬خطوات‭ ‬الادارة‭ ‬الامريكية،‭ ‬تأتي‭ ‬إليهم‭ ‬كما‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أجهزة‭ ‬الأعلام‭ ‬المختلفة‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قنوات‭ ‬الاتصال‭ ‬الخاصة‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬خلال‭ ‬الإدارات‭ ‬الأميركية‭ ‬السابقة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬لقائه‭ ‬بالرئيس‭ ‬الكوري‭ ‬الشمالي‭ ‬و‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬تعاطية‭ ‬مع‭  ‬الملف‭ ‬التركي‭ ‬والصيني‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬قد‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬نظام‭ ‬قائم‭ ‬كان‭ ‬محوره‭ ‬أمريكا‭ ‬ورديفاتها‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭.. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬سياساته‭ ‬المتتالية‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الاربع‭ ‬سنوات‭ ‬الماضية‭ ‬قد‭ ‬هدفت‭ ‬إلى‭ ‬تفككيك‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬دون‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬البدائل‭ ‬الممكنة‭ ‬الأخرى‭. ‬وقد‭ ‬يمثل‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الدولية،‭ ‬رغم‭ ‬سوء‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬البعض،‭ ‬وذهابه‭ ‬نحو‭ ‬دعم‭ ‬أنظمة‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬مارقة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬منضبطة‭ ‬الفعل‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬إطارها‭ ‬الإقليمي‭ ‬أو‭ ‬الدولي‭ ‬أو‭ ‬بالذهاب‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬تجارية‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬وفي‭ ‬نزعته‭ ‬المتسرعة‭ ‬نحو‭ ‬عقد‭ ‬اتفاق‭ ‬مع‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬قد‭ ‬أضعفت‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وشكل‭ ‬نقطة‭ ‬الابتعاد‭ ‬في‭ ‬سياساتها‭ ‬عن‭ ‬حلفائها‭ ‬الغربيين‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬أكون‭ ‬مبالغا‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الامريكي‭ ‬الجديد‭ ‬جو‭ ‬بايدن‭ ‬قد‭ ‬يحتاج‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬ولربما‭ ‬السنين‭ ‬لتغيير‭ ‬بعض‭ ‬سياسات‭ ‬ترامب‭ ‬و‭ ‬العودة‭ ‬سريعا‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬معمول‭ ‬به‭ ‬سابقا‭. ‬فالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الامريكية‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون،‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬الأدارة‭ ‬الجديدة،‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬وضعها‭ ‬المريح‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الشؤون‭ ‬الدولية‭ ‬وأن‭ ‬صراعاتها‭ ‬المكشوفة‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬و‭ ‬روسيا‭ ‬و‭ ‬إيران‭ ‬وكوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬وتلك‭ ‬الخفية‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬قد‭ ‬ربطته‭ ‬به‭ ‬تحالفات‭ ‬استراتيجية‭ ‬وعسكرية،‭ ‬قد‭ ‬تستمر‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬و‭ ‬لربما‭ ‬سباق‭ ‬التسلح‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بقوة‭ ‬مع‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬الجديدة،‭ ‬قد‭ ‬يستمر‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬محتوما‭.. ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يذهب‭ ‬محاولا‭ ‬تعقيد‭ ‬بعض‭ ‬الملفات‭ ‬الدولية‭ ‬الساخنة‭ ‬على‭ ‬الإدارة‭ ‬الامريكية‭ ‬القادمة،‭ ‬كما‭ ‬فيما‭ ‬سربته‭ ‬جريدة‭ ‬النيويورك‭ ‬تايم‭ ‬مؤخرا‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬أستهداف‭ ‬بعض‭ ‬المواقع‭ ‬النووية‭ ‬الايرانية‭ ‬قبل‭ ‬مغادرته‭ ‬البيت‭ ‬الابيض‭ ‬وهي‭ ‬الرغبة‭ ‬التي‭ ‬دفعته‭ ‬لإقالة‭ ‬وزير‭ ‬دفاعه‭ ‬مارك‭ ‬أسبر‭ ‬لمعارضته‭ ‬وبشدة‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭.‬

أما‭ ‬المسألة‭ ‬الأخرى‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬أمريكا‭ ‬الخارجية‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬علاقة‭ ‬أمريكا‭ ‬بحلفائها‭ ‬الأوربيين‭ ‬القريبين‭. ‬وهي‭ ‬علاقة‭ ‬قد‭ ‬شابها‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬الفتور‭ ‬ولربما‭ ‬خلخلا‭ ‬في‭ ‬الثقة‭ ‬القائمة‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬نتيجة‭ ‬لما‭ ‬يسمونه‭ ‬بسياسة‭ ‬الضغط‭ ‬الذي‭ ‬تعرضوا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ترامب‭ ‬وتحديدا‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬رفع‭ ‬حجم‭ ‬المساهم‭ ‬المالية‭ ‬في‭ ‬مصروفات‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬العسكرية،‭ ‬وفي‭ ‬تغطية‭ ‬كلفة‭ ‬بعض‭ ‬القواعد‭ ‬الأمريكية‭ ‬فيها،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمستقبل‭ ‬الناتو‭ ‬كمنظمة‭ ‬عسكرية‭ ‬حافظة‭ ‬للأمن‭ ‬والسلم‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬والتي‭ ‬طالما‭ ‬هدد‭ ‬ترامب‭ ‬بالانسحاب‭ ‬منها‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تضطلع‭ ‬أوربا‭ ‬بدور‭ ‬مالي‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬مصروفاتها‭ ‬العسكرية‭.‬

ويتداول‭ ‬الأوربيون‭ ‬كلاما‭ ‬متعلقا‭ ‬بتشجيع‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬لانسحابات‭ ‬أوربية‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭  ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬إنسحاب‭ ‬بريطانيا‭ ‬منها‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فقط‭ ‬مشجعة‭ ‬لانسحابات‭ ‬أوربية‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬و‭ ‬إنما‭ ‬أصبحت‭ ‬مشجعة‭ ‬للقوى‭ ‬والجماعات‭ ‬الشعبوية‭ ‬العنصرية‭ ‬الأوربية،‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬أو‭ ‬خارجها‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الفرنسية‭.. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬نحو‭ ‬أن‭ ‬تتخذ‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬وتحديدا‭ ‬فرنسا‭ ‬وألمانيا‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬الاستقلالية‭ ‬في‭ ‬قراراتها‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭ ‬وفي‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬التسليم‭ ‬بالقيادة‭ ‬الأمريكية‭ ‬قد‭ ‬أصابه‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الاهتزاز‭ ‬نتيجة‭ ‬لانسحابه‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الاتفاقات‭ ‬والمعاهدات‭ ‬والمنظمات‭ ‬الدولية‭. ‬وفي‭ ‬الحرب‭ ‬الاقتصادية‭ ‬القائمة‭ ‬ألآن‭ ‬بين‭ ‬الصين‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬لتحقيق‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الفائدة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الأكبر‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬منها‭ ‬لأحداث‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الدولية‭ ‬المائلة‭ ‬بشدة‭ ‬نحو‭ ‬الصين‭ ‬كما‭ ‬يعتقدون‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭ ‬فإن‭ ‬أنسحاب‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬والمنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬قد‭ ‬أضر‭ ‬كثيرا‭ ‬بها،‭ ‬إذ‭ ‬أعطت‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬المتعددة‭ ‬الاطراف‭ ‬أو‭ ‬الثنائية‭ ‬قوة‭ ‬في‭ ‬الحضور‭ ‬الامريكي‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭ ‬كما‭ ‬شكلت‭ ‬قناة‭ ‬مهمة‭ ‬للمعلومات‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬الأمريكية‭. ‬وبانسحابها‭ ‬منها‭ ‬فقدت‭ ‬أمريكا‭ ‬جزءا‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬حضورها‭ ‬الدولي‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الاقاليم‭ ‬والدول‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

‭ ‬وفيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمنطقة‭ ‬العربية‭ ‬والشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬فإن‭ ‬سياسة‭ ‬ترامب‭ ‬حيال‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬قد‭ ‬مثلت‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬القطيعة‭ ‬عن‭ ‬سياسيات‭ ‬الأدارات‭ ‬الامريكية‭ ‬السابقة،‭ ‬بل‭ ‬مثلت‭ ‬خروجا‭ ‬صريحا‭ ‬عن‭ ‬الثوابت‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬عليها‭ ‬سياسات‭ ‬الادارات‭ ‬السابقة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حكم‭ ‬الحزبين‭: ‬الجمهوري‭ ‬و‭ ‬الديمقراطي‭. ‬وتحديدا‭ ‬نقل‭ ‬السفارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬للقدس‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬الدولتين،‭ ‬ووقف‭ ‬الدعم‭ ‬المقدم‭ ‬لمنظمة‭ ‬الأنرو‭ ‬والسلطة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬والاعتراف‭ ‬بضم‭ ‬إسرائيل‭ ‬للجولان‭ ‬السورية‭. ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الاخرى‭ ‬فإن‭ ‬سياساته‭ ‬من‭ ‬التمدد‭ ‬التركي‭ ‬والإيراني‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬اتسم‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬التراخي‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬بدت‭ ‬عليه‭ ‬عقوباتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬على‭ ‬إيران‭ ‬متسمة‭ ‬بالصرامة‭ ‬والشدة‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭.‬

قد‭ ‬تكون‭ ‬سنوات‭ ‬حكم‭ ‬ترامب‭ ‬الأربع‭ ‬الماضية‭ ‬ليست‭ ‬بالسنوات‭ ‬الطويلة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الزمن‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ولكن‭ ‬الأحداث‭ ‬والمواقف‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬خلالها‭ ‬باتت‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للتراجع‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬أي‭ ‬إدارة‭ ‬جديدة‭ ‬قادمة‭. ‬فالصين‭ ‬مثلا‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬دولة‭ ‬قوية‭ ‬وغنية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬مالكة‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬الرؤوس‭ ‬النووية‭ ‬والاسلحة‭ ‬البالستية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬خروج‭ ‬أمريكا‭ ‬من‭ ‬الاتفاقية‭ ‬النووية‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬قد‭ ‬أعطى‭ ‬الإيرانيين‭ ‬مساحة‭ ‬وفرصة‭ ‬أكبر‭ ‬ولربما‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬للتمادي‭. ‬ولم‭ ‬يخفف‭ ‬من‭ ‬مشكلة‭ ‬البيئة‭ ‬وانتشار‭ ‬التلوث‭ ‬إلا‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬في‭ ‬انتشارها‭ ‬و‭ ‬اكتساحها‭ ‬المتكرر‭ ‬في‭ ‬موجات‭ ‬متتالية‭ ‬لبلاد‭ ‬العالم‭ ‬أجمع،‭ ‬وتحديدا‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬تعكس‭ ‬إخفاقات‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬مواجهاتها‭ ‬نتيجة‭ ‬للافتقاد‭ ‬لقدر‭ ‬من‭ ‬التنسيق‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬مواجهتها‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬التراخي‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الجائحة‭ ‬وما‭ ‬ألحقته‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬الأمريكي‭ ‬إلا‭ ‬أحد‭ ‬الاسباب‭ ‬القوية‭ ‬لخسارته‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأمريكية‭ ‬الأخيرة‭.‬

وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬محاولات‭ ‬ترتيب‭ ‬الاوضاع‭ ‬المتدهورة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬كنتيجة‭ ‬لتخبط‭ ‬السياسات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬اصبحت‭ ‬غير‭ ‬ممكنة‭ ‬بفعل‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬عليها‭ ‬العقل‭ ‬السياسي‭ ‬للسلطة‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الابيض‭ ‬بل‭ ‬لنقل‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬عليها‭ ‬السياسات‭ ‬الدولية،‭ ‬وإنحسار‭ ‬الدور‭ ‬الامريكي‭ ‬في‭ ‬ضبط‭ ‬بعضها‭ ‬أو‭ ‬ردعه‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬تحتاج‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬والاطر‭ ‬لتتمكن‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬المشكلات‭ ‬والتحديات‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬هاريس‭ ‬في‭ ‬مقاله‭ ‬الاخير‭ ‬في‭ ‬الفورين‭ ‬أفيرز‭. ‬خصوصا‭ ‬أن‭ ‬بصمات‭ ‬ترامب‭ ‬باتت‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬انطبعت،‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬ماركريت‭ ‬في‭ ‬فورين‭ ‬أفيرز،‭ ‬بسماته‭ ‬الشخصية‭. ‬فالسمات‭ ‬والخبرات‭ ‬الحياتية‭ ‬والانفرادية‭ ‬والطموحات‭ ‬الشخصية‭ ‬بالأضافة‭ ‬للقوة‭ ‬غير‭ ‬العادية،‭ ‬والقرارات‭ ‬التي‭ ‬يستطيع‭ ‬الرئيس‭ ‬أن‭ ‬يتخذها،‭ ‬شكلت‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬المرحلة‭ ‬السياسية‭ ‬الدولية‭ ‬السابقة‭.‬

وأعتقد‭ ‬بأن‭ ‬أي‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الامريكية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬القادمة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬أولا‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬المراجعات‭ ‬الجادة‭ ‬والكبيرة‭ ‬لمجمل‭ ‬السياسات‭ ‬الداخلية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الامريكي‭ ‬والتي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬جزءا‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬وجهد‭ ‬أي‭ ‬إدارة‭ ‬قادمة‭. ‬و‭ ‬لربما‭ ‬ثانيا‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للعمل‭ ‬المؤسسي‭ ‬في‭ ‬أتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬والتي‭ ‬افتقرت‭ ‬إليها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سياساته‭ ‬وقراراته‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬السابقة‭. ‬ولربما‭ ‬ثالثا‭ ‬إحداث‭ ‬انفصال‭ ‬لازم‭ ‬بين‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬والانشطة‭ ‬الشخصية‭ ‬لشخص‭ ‬الرئيس‭ ‬أو‭ ‬الحزب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الساسة‭ ‬و‭ ‬المعلقين‭ ‬الامريكيين‭ ‬لانتقاد‭ ‬الرئيس‭ ‬باستخدامه‭ ‬لمبنى‭ ‬البيت‭ ‬الابيض‭ ‬في‭ ‬إعلان‭ ‬ترشيح‭ ‬الحزب‭ ‬الجمهوري‭ ‬لشخصه‭  ‬للرئاسة‭ ‬الامريكية‭.. ‬بل‭  ‬قد‭ ‬اثار‭ ‬تلكؤه‭ ‬بالاعتراف‭ ‬بخسارته‭ ‬الانتخابية‭ ‬وعرقلته‭ ‬للانتقال‭ ‬السلس‭ ‬للسطة‭ ‬من‭ ‬مخاوف‭ ‬خضوع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬قيادات‭ ‬الحزب‭ ‬الجمهوري‭ ‬لإرادة‭ ‬ترامب‭ ‬و‭ ‬هيمنته‭ ‬رغم‭ ‬حداثة‭ ‬انضمامه‭ ‬للحزب‭.. ‬ولنا‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬قادم‭ ‬مناقشة‭ ‬حجم‭ ‬الخلل‭ ‬والمشكلات‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأخيرة‭. ‬ولربما‭ ‬أخطرها‭ ‬تنامي‭ ‬حدة‭ ‬الانقسامات‭ ‬العرقية‭ ‬والإثنية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الامريكي،‭ ‬والانفرادية‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القرارات‭.‬