من جديد

جلجامش حي للأبد

| د. سمر الأبيوكي

لا‭ ‬أخفي‭ ‬إعجابي‭ ‬الشديد‭ ‬بملحمة‭ ‬جلجامش،‭ ‬فهي‭ ‬باختصار‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬يعايشه‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مراحل‭ ‬حياته‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬تعلمه‭ ‬النطق‭ ‬والحديث‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬الفراق‭ ‬والموت،‭ ‬وأسئلة‭ ‬اللاوعي‭ ‬حول‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬ولماذا‭ ‬نحيا‭ ‬ونموت‭ ‬ونحيا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬أبدا،‭ ‬وتجدني‭ ‬كلما‭ ‬ضاقت‭ ‬الأفكار‭ ‬بي‭ ‬أتجه‭ ‬مسرعة‭ ‬لقراءة‭ ‬الملحمة،‭ ‬ففيها‭ ‬من‭ ‬الدروس‭ ‬والمواعظ‭ ‬وما‭ ‬خلف‭ ‬الكلمات‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يربي‭ ‬لنا‭ ‬فيلسوفا‭ ‬أو‭ ‬مفكرا‭ ‬أو‭ ‬متدبرا،‭ ‬ورغم‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬كتبنا‭ ‬المدرسية‭ ‬مررنا‭ ‬بدروس‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الملحمة‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬أبخسنا‭ ‬حقها‭ ‬كثيرا،‭ ‬فرحلة‭ ‬جلجامش‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الخلود‭ ‬كما‭ ‬الإله،‭ ‬رحلة‭ ‬بها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدروس،‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬إنعاش‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬وتفتح‭ ‬المجال‭ ‬لربط‭ ‬الواقع‭ ‬بالخيال‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬الملحمة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تلونت‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬زخارف‭ ‬الحكايا‭ ‬وفاقت‭ ‬بألوانها‭ ‬الأساطير‭.‬

ولمن‭ ‬لا‭ ‬علم‭ ‬له‭ ‬بالملحمة‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬مرت‭ ‬عليه‭ ‬ذكرا‭ ‬مرور‭ ‬الكرام،‭ ‬اسمحوا‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أسردها‭ ‬ملخصة‭ ‬في‭ ‬جمل‭ ‬بسيطة‭ ‬أهم‭ ‬درس‭ ‬استوقفني‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬منظوري‭ ‬الخاص،‭ ‬حيث‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬حاكم‭ ‬قوي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬ديمومة‭ ‬الحياة‭ ‬ويرى‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬والقوة‭ ‬والمقدرة‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬مخلدا‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬فيبحث‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬الحياة‭ ‬ويرد‭ ‬إلى‭ ‬مسامعه‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شخصا‭ ‬بشريا‭ ‬واحدا‭ ‬مخلدا‭ ‬كما‭ ‬الإله،‭ ‬فيبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭ ‬ليسأله‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬الخلود،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬جلجامش‭ ‬يصل‭ ‬بالفعل‭ ‬إلى‭ ‬مبتغاه‭ ‬ويصل‭ ‬إلى‭ ‬“أوتنباشم”‭ ‬المخلد،‭ ‬لكنه‭ ‬يصدم‭ ‬من‭ ‬هيئته‭ ‬واتكائه‭ ‬مسجى‭ ‬على‭ ‬جانبه‭ ‬وينظر‭ ‬له‭ ‬ويستغرب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬“أوتنباشم”‭ ‬مخلدا‭ ‬وهو‭ ‬أقل‭ ‬منه‭ ‬هيبة‭ ‬وشكلا،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يستوقفني‭ ‬حقا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬الذي‭ ‬أعتبره‭ ‬جميلا‭ ‬ومختلفا‭ ‬حيث‭ ‬تلتقي‭ ‬القوة‭ ‬والعزيمة‭ ‬والإصرار‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬جلجامش‭ ‬بالحكمة‭ ‬والهدوء‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬“أوتنباشم”‭ ‬هو‭ ‬رد‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬استفسارات‭ ‬الأول‭ ‬بمنتهى‭ ‬المنطق‭ ‬قائلا‭ ‬‘’من‭ ‬يبني‭ ‬بيوتا‭ ‬تدوم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد؟‭ ‬من‭ ‬يقطع‭ ‬عهدا‭ ‬يدوم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬الناس‭ ‬يرثون،‭ ‬يقتسمون،‭ ‬فأي‭ ‬إرث‭ ‬يدوم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬البغضاء،‭ ‬حتى‭ ‬البغضاء،‭ ‬أتبقى‭ ‬إلى‭ ‬الأبد؟’’،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منه‭ ‬لتلقين‭ ‬جلجامش‭ ‬درسا‭ ‬حقيقيا‭ ‬حول‭ ‬هبة‭ ‬الخلود‭ ‬والدوام،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬جلجامش‭ ‬العنفوان‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أسميه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أبحر‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬ملحمته‭ ‬الخالدة‭ ‬يصر‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬نبتة‭ ‬الخلود‭ ‬ظنا‭ ‬منه‭ ‬أنها‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬اللانهاية،‭ ‬وللأسف‭ ‬فبعد‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬سر‭ ‬الخلود‭ ‬تأتي‭ ‬الحية‭ ‬وتبتلع‭ ‬منه‭ ‬“اللؤلؤة”‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬واضحة‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الخلود‭ ‬البحرين‭ ‬التي‭ ‬يزهر‭ ‬بطن‭ ‬بحرها‭ ‬بلؤلؤ‭ ‬مكنون،‭ ‬وياليتني‭ ‬في‭ ‬مقالي‭ ‬هذا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أسرد‭ ‬وأوضح‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اللقاءات‭ ‬والحوارات‭ ‬الذكية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬بين‭ ‬جلجامش‭ ‬وعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الملحمة،‭ ‬لكنني‭ ‬من‭ ‬موقعي‭ ‬هذا‭ ‬أوجه‭ ‬دعوة‭ ‬للاهتمام‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬بهذا‭ ‬التاريخ‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬يخدم‭ ‬بلادنا،‭ ‬ونستطيع‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أن‭ ‬نحيي‭ ‬الثقافة‭ ‬وننشط‭ ‬السياحة‭ ‬ونهتم‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬كتبنا‭ ‬المدرسية‭.‬