كورونا حجة غياب... أم عذر حقيقي؟

| هدى حرم

“كانت‭ ‬تائهة‭ ‬وعثرنا‭ ‬عليها”‭.. ‬لطالما‭ ‬تمنينا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬أنفسنا،‭ ‬كنا‭ ‬نتمنى‭ ‬أنْ‭ ‬يكُفَّ‭ ‬الأهلُ‭ ‬والجيران‭ ‬عن‭ ‬زياراتهم‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬“حوش‭ ‬دارنا”؛‭ ‬لننعمَ‭ ‬ببعض‭ ‬الخصوصيةِ‭ ‬في‭ ‬منازلنا،‭ ‬تبطَّرْنا‭ ‬على‭ ‬نعمةِ‭ ‬التواصلِ‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الجميل،‭ ‬وجنحنا‭ ‬للعزلةِ‭ ‬والوحدة‭ ‬ظناً‭ ‬منّا‭ ‬أنَّ‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬سماتِ‭ ‬التحضُّرِ‭ ‬والرقي؛‭ ‬فخلَّفنا‭ ‬وراءَنا‭ ‬إرثاً‭ ‬رائعاً‭ ‬وقلوباً‭ ‬جميلة‭ ‬تتداعى‭ ‬إلى‭ ‬أحبتها‭ ‬في‭ ‬الشدةِ‭ ‬والرخاء‭ ‬بلا‭ ‬موعدٍ‭ ‬مسبقٍ‭ ‬ولا‭ ‬إخطار‭. ‬ومن‭ ‬تقاليدِ‭ ‬الباب‭ ‬المفتوح‭ ‬والحصيرِ‭ ‬الممدود‭ ‬و”قلة”‭ ‬التمر‭ ‬في‭ ‬الحوشِ‭ ‬أو‭ ‬الليوان،‭ ‬حيث‭ ‬الأحاديث‭ ‬الطويلةِ‭ ‬التي‭ ‬تختلطُ‭ ‬فيها‭ ‬الأصواتُ‭ ‬بأنغامٍ‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬يتفقدُ‭ ‬خلالها‭ ‬الجارُ‭ ‬جاره‭ ‬والجدُ‭ ‬عياله،‭ ‬لسياسةِ‭ ‬الباب‭ ‬المغلقِ‭ ‬التي‭ ‬انتهجها‭ ‬الجيلُ‭ ‬الثاني‭ ‬تمشيا‭ ‬مع‭ ‬عجلة‭ ‬التطورِ‭ ‬والتقدمِ‭ ‬التي‭ ‬جرَّتْ‭ ‬كلاً‭ ‬من‭ ‬الرجلِ‭ ‬والمرأةِ‭ ‬إلى‭ ‬حقلِ‭ ‬العمل‭ ‬والإنتاج،‭ ‬فذُهِلتْ‭ ‬المرأةُ‭ ‬عن‭ ‬شؤونِ‭ ‬مجتمعها‭ ‬بالعملِ‭ ‬ورعاية‭ ‬الأطفال‭ ‬والمنزل،‭ ‬وأُجبرَ‭ ‬الرجلُ‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬مصادرَ‭ ‬أخرى‭ ‬للدخل‭ ‬إيفاءً‭ ‬لمتطلباتِ‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬تزدادُ‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬مع‭ ‬ذهابِ‭ ‬القناعةِ‭ ‬وزيادةِ‭ ‬الغلاء‭.‬

باتَ‭ ‬الناسُ‭ ‬يخشون‭ ‬زيارةَ‭ ‬بعضهم‭ ‬لانشغالِ‭ ‬الجميع‭ ‬ومخافة‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬إقلاقِ‭ ‬راحةِ‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬وأُغلقَ‭ ‬البابُ‭ ‬بصورةٍ‭ ‬رسمية‭ ‬لمْ‭ ‬يُنكرها‭ ‬أحد‭ ‬أو‭ ‬يزدريها‭ ‬المجتمع،‭ ‬إلا‭ ‬ثلةٌ‭ ‬من‭ ‬الطيبين‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬وجاءت‭ ‬كورونا‭ ‬لا‭ ‬لتُغلقَ‭ ‬البابَ‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ولتضعَ‭ ‬قفلاً‭ ‬لا‭ ‬يُفتح‭ ‬على‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬الإنسانية‭ ‬وأواصر‭ ‬الدم،‭ ‬وباتتْ‭ ‬قطيعة‭ ‬الوالدين‭ ‬والأهل‭ ‬مبررة،‭ ‬وصار‭ ‬المجتمعُ‭ ‬ينادي‭ ‬بالعزلة‭ ‬ويشجعُ‭ ‬عليها،‭ ‬بطبيعةِ‭ ‬الحال،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬كورونا‭ ‬حجةَ‭ ‬غيابٍ‭ ‬متفق‭ ‬عليها‭ ‬لا‭ ‬تشوبها‭ ‬شائبة،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬البعض‭ ‬وجدها‭ ‬فرصةً‭ ‬ذهبيةً‭ ‬للتخلصِ‭ ‬من‭ ‬مسؤولياته‭ ‬تجاهَ‭ ‬ذويه‭ ‬ومجتمعه‭ ‬واستعذبَ‭ ‬الاختفاءَ‭ ‬والعيش‭ ‬بحرية،‭ ‬لا‭ ‬يُسأل‭ ‬عما‭ ‬يفعل،‭ ‬ولا‭ ‬أين‭ ‬يقضي‭ ‬وقته،‭ ‬وقد‭ ‬يسافرُ،‭ ‬أو‭ ‬يتجولُ‭ ‬أو‭ ‬يتناولُ‭ ‬وجباته‭ ‬خارج‭ ‬منزله،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يُضمِّنُ‭ ‬الأقربين‭ ‬في‭ ‬خطِ‭ ‬سيرِ‭ ‬رحلاته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬الأهلِ‭ ‬والجيران،‭ ‬وهنا،‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أُهوِّنُ‭ ‬من‭ ‬خطرِ‭ ‬الفيروس‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬فالوقاية‭ ‬واجبة؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬السؤالَ‭ ‬الذي‭ ‬يطرحُ‭ ‬نفسه،‭ ‬هل‭ ‬يقبعُ‭ ‬الفيروس‭ ‬في‭ ‬بيوتاتِ‭ ‬الأحبة‭ ‬وتخلو‭ ‬منه‭ ‬المرافقُ‭ ‬العامة‭ ‬والطرقات‭.‬