مُلتقطات

جيرانٌ... خصومٌ في المحاكم!

| د. جاسم المحاري

أشار‭ ‬المؤرخ‭ ‬العربي‭ ‬المولد‭ ‬الأندلسي‭ ‬الأصل‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الحضرمي‭ ‬المعروف‭ ‬بـ‭ ‬“ابن‭ ‬خلدون”‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬الشهيرة،‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الإنسان‭ ‬اجتماعي‭ ‬بطبعه‭ ‬بما‭ ‬يستصعب‭ ‬عليه‭ ‬الانعزال‭ ‬عن‭ ‬محيطه‭ ‬الجماعي‭ ‬الذي‭ ‬يميل‭ ‬إليه‭ ‬فطريًا‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬خرج‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬حماية‭ ‬هذا‭ ‬المحيط‭ ‬وكنف‭ ‬بحبوحته،‭ ‬وحتى‭ ‬مشاركته‭ ‬في‭ ‬أفراحهم‭ ‬وتفاعله‭ ‬بأتراحهم‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬بالاحترام‭ ‬مفعمة‭ ‬وبالتقدير‭ ‬ممتلئة،‭ ‬التي‭ ‬يأتي‭ ‬فيها‭ ‬الجار‭ ‬الملاصق‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أركانها‭ ‬المتشابكة‭ ‬بذاك‭ ‬المحيط‭ ‬المجتمعي،‭ ‬الذي‭ ‬يتصدّر‭ ‬عبقه‭ ‬شذا‭ ‬المحبة‭ ‬وروح‭ ‬التسامح‭ ‬وديمومة‭ ‬العون،‭ ‬الحافظ‭ ‬للخصوصية‭ ‬الملتزمة‭ ‬والصائن‭ ‬للحقوق‭ ‬المتعارفة‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الأذى‭ ‬أو‭ ‬الضرر‭ ‬أو‭ ‬التشويه،‭ ‬الذي‭ ‬يستوطنه‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المحض‭ ‬وتكوين‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الخالصة‭.‬

غير‭ ‬أنّ‭ ‬“معضلة‭ ‬القنفذ”‭ ‬التي‭ ‬تحدّث‭ ‬عنها‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬“شوبنهار”؛‭ ‬تؤكد‭ ‬ما‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬الكاتب‭ ‬المصري‭ ‬مصطفى‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬حفظ‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬العربات‭ ‬في‭ ‬الطرقات،‭ ‬بعدما‭ ‬أوضح‭ ‬ضرورة‭ ‬إبقاء‭ ‬القنافذ‭ ‬متباعدة‭ ‬المسافات‭ ‬كي‭ ‬تتجنب‭ ‬وخز‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الدفء‭ ‬أثناء‭ ‬تجمّعها‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء‭ ‬من‭ ‬جانب‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬وقاية‭ ‬العربات‭ ‬من‭ ‬التصادم‭ ‬المُهلك‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ - ‬بدون‭ ‬ترك‭ ‬تلك‭ ‬المسافة‭ ‬الآمنة‭ - ‬بالعلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تربط‭ ‬الجار‭ ‬بجاره،‭ ‬إلى‭ ‬التزاحم‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬المحاكم‭ ‬لحسم‭ ‬خلافاتهم‭ ‬بعد‭ ‬استعراض‭ ‬مسلسل‭ ‬أسرارهم‭ ‬وإفشاء‭ ‬تبعات‭ ‬فضائحهم‭ - ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬قول‭ ‬أحد‭ ‬القرّاء‭ ‬الذي‭ ‬أكد‭ ‬وجود‭ ‬عشرات‭ ‬الدعاوى‭ ‬المنظورة‭ - ‬أمام‭ ‬القضاء‭ ‬عن‭ ‬نزاعاتهم‭ ‬في‭ ‬أفنية‭ ‬تلك‭ ‬القاعات‭ ‬وما‭ ‬يصاحبها‭ ‬من‭ ‬مشاهد‭ ‬البؤس‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬أروقتها‭ ‬عن‭ ‬علائق‭ ‬الجار‭ ‬بجاره‭ ‬أمام‭ ‬مرأى‭ ‬القضاة‭ ‬التي‭ ‬تعددت‭ ‬أسبابها‭ (‬التافهة‭!) ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السباب‭ ‬والشتائم‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬التهديد‭ ‬والمشادات‭ ‬الكلامية‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬رمي‭ ‬النفايات‭ ‬ومواقف‭ ‬السيارات‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬حالات‭ ‬السرقة‭ ‬وسدّ‭ ‬الطرقات‭ ‬والتّعدي‭ ‬بالضرب‭.‬

نافلة‭: ‬

فيما‭ ‬مضى،‭ ‬كان‭ ‬الجار‭ ‬يترك‭ ‬مفتاح‭ ‬بيته‭ ‬لدى‭ ‬جاره‭ ‬عند‭ ‬غيابه‭ ‬رُغم‭ ‬التزامهم‭ ‬بمسافات‭ ‬الأمان‭ ‬المفترضة‭! ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬تغيّر‭ ‬المرجعية‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬صاحبها‭ ‬التغير‭ ‬في‭ ‬منسوب‭ ‬الوفرة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬قبَالَ‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬والقيمية‭ ‬المقدسة؛‭ ‬صيّرت‭ ‬السّواد‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬ولاسيما‭ ‬الجيران‭ ‬Neighborhood‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬أبطالاً‭ ‬لا‭ ‬يتورعون‭ ‬عن‭ ‬إفشاء‭ ‬أسرارهم‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬المحاكم‭ ‬التي‭ ‬تصدّرت‭ ‬نشر‭ ‬تفاصيلها‭ ‬صفحات‭ ‬الجرائد‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬حلّت‭ (‬مع‭ ‬بالغ‭ ‬الأسف‭) ‬قَبْلَهَا‭ ‬ساحات‭ ‬السّجال‭ ‬وتبادل‭ ‬التهم‭ ‬وتفريغ‭ ‬المشاكل‭ ‬وسيادة‭ ‬النزاعات‭ ‬عند‭ ‬واجهات‭ ‬البيوت‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ممرات‭ ‬البنايات‭ ‬أو‭ ‬خلف‭ ‬أبواب‭ ‬المصاعد‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬عتبات‭ ‬السلالم‭ ‬أو‭ ‬حول‭ ‬مواقف‭ ‬السيارات‭.‬