الطيبة قوة... أم سذاجة وغباء؟

| هدى حرم

هل‭ ‬ولى‭ ‬زمانُ‭ ‬الطيبين،‭ ‬وهل‭ ‬انقرضوا‭ ‬وبادوا؟‭ ‬أيجوزُ‭ ‬حقاً‭ ‬أنْ‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الطيبةَ‭ ‬اليوم‭ ‬تُعدُّ‭ ‬سذاجة‭ ‬وإن‭ ‬الطيبين‭ ‬لا‭ ‬يمكنهم‭ ‬العيشُ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمان،‭ ‬وهل‭ ‬يجدرُ‭ ‬بنا‭ ‬الترويجُ‭ ‬لمقولةٍ‭ ‬عتيقةٍ‭ ‬تجددت‭ ‬ونالتْ‭ ‬حقها‭ ‬من‭ ‬الدعايةِ‭ ‬والاستحسان‭ ‬مفادها‭ ‬“إِن‭ ‬لمْ‭ ‬تكنْ‭ ‬ذئباً‭ ‬أكلتكَ‭ ‬الذئاب”؟‭ ‬أبهذا‭ ‬نستطيع‭ ‬الادِّعاءَ‭ ‬بأننا‭ ‬نحيا‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬مليءٍ‭ ‬بالوحوش‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُجابهُ‭ ‬إلا‭ ‬بتكشير‭ ‬الأنياب،‭ ‬ثم‭ ‬ندَّعي‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬الحِملانُ‭ ‬الوديعة‭ ‬في‭ ‬قبالة‭ ‬هذه‭ ‬العُسلان؟

من‭ ‬بقيَ‭ ‬من‭ ‬الأخيار‭ ‬إذاً،‭ ‬وهل‭ ‬يستوي‭ ‬الحالُ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬ويعمّ‭ ‬الأمانُ‭ ‬والوئام‭ ‬إذا‭ ‬غاب‭ ‬الطيبون؟‭ ‬هذه‭ ‬الثقافةُ‭ ‬الدخيلة‭ ‬على‭ ‬الأديان‭ ‬والأعراف‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬توحيشِ‭ ‬الأفراد‭ ‬ونزع‭ ‬الرحمةِ‭ ‬والرقة‭ ‬واللين‭ ‬من‭ ‬قلوبهم‭ ‬تجاهَ‭ ‬بعضهم،‭ ‬بدعوى‭ ‬أنه‭ ‬حريٌ‭ ‬بهم‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬منْ‭ ‬أساءوا‭ ‬لهم‭ ‬وواجبٌ‭ ‬عليهم‭ ‬أخذ‭ ‬حقوقهم‭ ‬وإنْ‭ ‬بالقوة،‭ ‬تجاوزاً‭ ‬وتعدياً،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬التدرج‭ ‬في‭ ‬المطالبة‭ ‬بالحقوق‭ ‬تمشياً‭ ‬مع‭ ‬القوانين‭ ‬الإلهية‭ ‬والأرضية‭ ‬وتزامناً‭ ‬مع‭ ‬العاداتِ‭ ‬المتبعة‭ ‬أولاً‭ ‬وأخيرا،‭ ‬حتى‭ ‬درجَ‭ ‬عُسلانُ‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭ ‬على‭ ‬نهجِ‭ ‬أساليبَ‭ ‬ضاريةٍ‭ ‬في‭ ‬أخذ‭ ‬الحقوق‭ ‬بقسوة‭ ‬وحلِ‭ ‬المشكلات‭ ‬بصورةٍ‭ ‬دمويةٍ‭ ‬مؤسفة‭. ‬بدأ‭ ‬ذلك‭ ‬يطفحُ‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬لشديدِ‭ ‬الأسف،‭ ‬ولنكنْ‭ ‬صُرحاء‭ ‬مع‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض؛‭ ‬فقد‭ ‬تجذرتْ‭ ‬أسسُ‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬وترسخت‭ ‬بالتربية،‭ ‬حين‭ ‬ظهرت‭ ‬بعضُ‭ ‬الدراسات‭ ‬التربوية‭ ‬القائلة‭ ‬بوجوب‭ ‬تدريب‭ ‬الطفل‭ ‬على‭ ‬آليات‭ ‬دفاع‭ ‬ضد‭ ‬السخريةِ‭ ‬والتنمر‭ ‬والعنصرية،‭ ‬ومنها‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬والمواجهة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المواقف‭ ‬المختلفة،‭ ‬حتى‭ ‬أنَّ‭ ‬الآباء‭ ‬باتوا‭ ‬يُشجعون‭ ‬أبناءهم‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬ويسمونهم‭ ‬سباعا‭.‬

ولا‭ ‬نقولُ‭ ‬إنَّ‭ ‬دفاع‭ ‬الأبناء‭ ‬أو‭ ‬الأفراد‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭ ‬خطأ،‭ ‬بل‭ ‬إنَّ‭ ‬الدفاع‭ ‬المُفرط‭ ‬الذي‭ ‬ينقلبُ‭ ‬إلى‭ ‬الهجوم‭ ‬ويتسبب‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬القتلِ‭ ‬والتعدي‭ ‬الذي‭ ‬يُودي‭ ‬بحياةِ‭ ‬البشر‭ ‬وسلبِ‭ ‬حريات‭ ‬آخرين‭ ‬لاسيما‭ ‬الشباب‭ ‬هو‭ ‬حالةٌ‭ ‬مجتمعية‭ ‬خطيرة‭ ‬ومؤلمة‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتفشى‭ ‬ويُغضَّ‭ ‬الطرْفُ‭ ‬عنها‭. ‬ظاهرة‭ ‬ترعرعتْ‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬العولمةِ‭ ‬وضعف‭ ‬الوازع‭ ‬الديني‭ ‬لدى‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬لمْ‭ ‬يعدْ‭ ‬يردعه‭ ‬رادع‭.‬

ولا‭ ‬يجدرُ‭ ‬بنا‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الدمار‭ ‬وتجلي‭ ‬مبدأ‭ ‬الاستقواء‭ ‬الاستخفافُ‭ ‬بالطيبة‭ ‬والطيبين‭ ‬ممن‭ ‬تبقوا‭ ‬من‭ ‬الخلق‭ ‬أحياء‭ ‬يُرزقون‭ ‬رغم‭ ‬التمييزِ‭ ‬والاستهزاء‭ ‬والاعتزال،‭ ‬ظناً‭ ‬منا‭ ‬بأننا‭ ‬المحقون‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬خالفَ‭ ‬سنةَ‭ ‬الحياة‭ ‬لالتزامهم‭ ‬بالخُلُق‭ ‬القويم‭. ‬أيُعقلُ‭ ‬أنْ‭ ‬نكون‭ ‬نحن‭ ‬الأذكياءُ‭ ‬الأقوياء‭ ‬وهم‭ ‬الطيبون‭ ‬الضعفاءُ‭ ‬الأغبياء؟‭.‬