الذكرى الأربعون للحرب العراقية الإيرانية.. بين حكمة الملك فهد وتهور صدام

| عبدالنبي الشعلة

بعد‭ ‬يومين‭ ‬تمر‭ ‬الذكرى‭ ‬الأربعون‭ ‬لنشوب‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الإيرانية‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1980،‭ ‬التي‭ ‬سميت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬بـ‭ ‬”حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الأولى”‭.‬

وفي‭ ‬علوم‭ ‬السياسة‭ ‬وفنون‭ ‬الحرب‭ ‬ثمة‭ ‬نظريتان‭ ‬أو‭ ‬وجهتا‭ ‬نظر‭ ‬متقابلتان‭ ‬ومتناقضتان‭ ‬ظلتا‭ ‬مثار‭ ‬نقاش‭ ‬وجدل‭ ‬بين‭ ‬القادة‭ ‬والساسة‭ ‬والمفكرين؛‭ ‬الأولى‭ ‬تقول‭ ‬إنّ‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬تهاجم‭ ‬عدوك‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انقسام‭ ‬وتفرق‭ ‬وتشتت‭ ‬واختلاف،‭ ‬والثانية‭ ‬ترى‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬الأجدى‭ ‬والأكيس‭ ‬ألا‭ ‬تهاجم‭ ‬عدوك‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الحالة؛‭ ‬فذلك‭ ‬سيدعوه‭ ‬ويجعله‭ ‬يتجاوز‭ ‬خلافاته‭ ‬ويرص‭ ‬صفوفه‭ ‬ويتوحد‭ ‬خلف‭ ‬قيادته‭ ‬بقناعة‭ ‬أرسخ‭ ‬وإيمان‭ ‬أعمق‭ ‬وبحماس‭ ‬أصلب‭ ‬لمواجهة‭ ‬المعتدي‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭.‬

الرئيس‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أتباع‭ ‬النظرية‭ ‬أو‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬الأولى؛‭ ‬فبعد‭ ‬قيام‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وانهيار‭ ‬نظام‭ ‬الشاه،‭ ‬وتسلم‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬زمام‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬1979،‭ ‬بدأت‭ ‬العلاقات‭ ‬تتأزم‭ ‬وتتوتر‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬قادة‭ ‬إيران‭ ‬الجدد‭ ‬عندما‭ ‬استشعر‭ ‬خطر‭ ‬اندلاق‭ ‬زخم‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬بلاده،‭ ‬واستفزته‭ ‬شعارات‭ ‬تصديرها،‭ ‬ومحاولات‭ ‬إيران‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الداخلية‭ ‬للعراق‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬وقوع‭ ‬مناوشات‭ ‬واشتباكات‭ ‬عسكرية‭ ‬متقطعة‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭.‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬اتصل‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬بالملك‭ ‬فهد‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬ليخبره‭ ‬بأنه‭ ‬قرر‭ ‬شن‭ ‬حرب‭ ‬على‭ ‬إيران‭ ‬لوضع‭ ‬حد‭ ‬لتهديداتها،‭ ‬ووقف‭ ‬محاولات‭ ‬بسط‭ ‬نفوذها‭ ‬على‭ ‬بلاده،‭ ‬مستفيدًا‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الانقسام‭ ‬والتشرذم‭ ‬والتفكك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬إيران‭ ‬تشهدها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تشتد‭ ‬شوكة‭ ‬نظام‭ ‬الخميني،‭ ‬وإنه‭ ‬واثق‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬ثمة‭ ‬وقت‭ ‬أو‭ ‬ظرف‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬لشن‭ ‬الحرب‭ ‬وكسبها‭ ‬وتلقين‭ ‬الإيرانيين‭ ‬درسًا‭.‬

وفي‭ ‬مقابلة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬موجودة‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬“يوتيوب”‭ ‬أجرتها‭ ‬إحدى‭ ‬محطات‭ ‬التلفزة‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬الأمير‭ ‬تركي‭ ‬بن‭ ‬فيصل‭ ‬آل‭ ‬سعود،‭ ‬أكد‭ ‬الأمير‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬فهد‭ ‬“نصح‭ ‬صدام‭ ‬بأن‭ ‬يترك‭ ‬الأمور‭ ‬عند‭ ‬المناوشات‭ ‬الحدودية،‭ ‬ولا‭ ‬يدخل‭ ‬الأراضي‭ ‬الإيرانية،‭ ‬فإيران‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فوضى‭ ‬بعد‭ ‬الثورة،‭ ‬جيشهم‭ ‬وسياستهم‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فوضى،‭ ‬دعها‭ ‬وشأنها،‭ ‬الإيرانيون‭ ‬منهمكون‭ ‬في‭ ‬مقاتلة‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضًا،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬دخلت‭ ‬أرضهم‭ ‬فإنك‭ ‬ستوحدهم،‭ ‬وستقاتل‭ ‬بلدا‭ ‬فيه‭ ‬60‭ ‬مليون‭ ‬نسمة،‭ ‬ومقدرات‭ ‬وفيرة،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬حرب‭ ‬استنزاف‭ ‬طويلة،‭ ‬وذلك‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬مصلحتك‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬مصلحتنا‭... ‬لكنّ‭ ‬صدام‭ ‬أصر‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬سيمضي‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬طهران”‭.‬

وبالفعل،‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬صدام‭ ‬بنصيحة‭ ‬الملك‭ ‬فهد،‭ ‬فنشبت‭ ‬الحرب؛‭ ‬واجتاحت‭ ‬القوات‭ ‬العراقية‭ ‬الحدود‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬22‭ ‬سبتمبر،‭ ‬وأخذت‭ ‬تتوغل‭ ‬بسرعة‭ ‬داخل‭ ‬الأراضي‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وفي‭ ‬سرعة‭ ‬لافتة‭ ‬تخلى‭ ‬المعارضون‭ ‬الإيرانيون‭ ‬عن‭ ‬معارضتهم‭ ‬للنظام،‭ ‬وتناسوا‭ ‬خلافاتهم‭ ‬ووضعوها‭ ‬جانبًا،‭ ‬واصطفوا‭ ‬وراء‭ ‬قيادة‭ ‬الخميني،‭ ‬وسارعت‭ ‬القوات‭ ‬الإيرانية‭ ‬بدفع‭ ‬وحداتها‭ ‬إلى‭ ‬الجبهة،‭ ‬وإعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬صفوفها،‭ ‬وتم‭ ‬الإفراج‭ ‬عن‭ ‬ضباط‭ ‬الجيش‭ ‬الإيراني‭ ‬المعتقلين‭ ‬وإرسالهم‭ ‬فورا‭ ‬للالتحاق‭ ‬بوحداتهم‭ ‬على‭ ‬جبهات‭ ‬القتال‭. ‬فتمكنت‭ ‬المقاومة‭ ‬والدفاعات‭ ‬الإيرانية‭ ‬من‭ ‬توقيف‭ ‬زحف‭ ‬القوات‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬ديسمبر‭ ‬1980،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬احتلت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬15000‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬الإيرانية،‭ ‬عندها‭ ‬بدأت‭ ‬موازين‭ ‬الحرب‭ ‬تنعكس؛‭ ‬واستطاع‭ ‬الإيرانيون‭ ‬استعادة‭ ‬كل‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬فقدوها‭ ‬بحلول‭ ‬يونيو‭ ‬1982،‭ ‬وصار‭ ‬صدام‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬دفاعي،‭ ‬وبدأ‭ ‬يعرض‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭.‬

وفي‭ ‬منتصف‭ ‬ذلك‭ ‬الشهر‭ ‬انقلب‭ ‬الوضع‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬وعبرت‭ ‬القوات‭ ‬الإيرانية‭ ‬الحدود‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منها‭ ‬لاحتلال‭ ‬مدينة‭ ‬البصرة؛‭ ‬ودارت‭ ‬معارك‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬حول‭ ‬المدينة‭ ‬اعتبرت‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬المعارك‭ ‬البرية‭ ‬منذ‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬إيران‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭.‬

يقول‭ ‬الأمير‭ ‬تركي‭: ‬“صدام‭ ‬أبلغ‭ ‬الملك‭ ‬فهد‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب؛‭ ‬ليتني‭ ‬سمعت‭ ‬نصيحتك‭ ‬لأنني‭ ‬أريد‭ ‬الآن‭ ‬فض‭ ‬الاشتباك”‭.‬

لقد‭ ‬صدقت‭ ‬نبوءات‭ ‬وتوقعات‭ ‬الملك‭ ‬فهد‭ ‬رحمه‭ ‬الله؛‭ ‬فقد‭ ‬أيقظت‭ ‬الحرب‭ ‬واستفزت‭ ‬الروح‭ ‬الوطنية‭ ‬عند‭ ‬الإيرانيين،‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬إذكاء‭ ‬تعبئة‭ ‬قومية‭ ‬شاملة‭ ‬لديهم،‭ ‬واستطاع‭ ‬النظام‭ ‬ترسيخ‭ ‬وتثبيت‭ ‬أقدامه،‭ ‬فظلت‭ ‬رحى‭ ‬الحرب‭ ‬تدور‭ ‬بضراوة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬لثماني‭ ‬سنوات،‭ ‬وأطلق‭ ‬عليها‭ ‬العراقيون‭ ‬“قادسية‭ ‬صدام”،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حرب‭ ‬القادسية‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬1380‭ ‬عاما،‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬4‭ ‬أيام،‭ ‬حقق‭ ‬فيها‭ ‬المسلمون‭ ‬انتصارًا‭ ‬ساحقا‭ ‬على‭ ‬الفرس،‭ ‬وكانت‭ ‬إيذانًا‭ ‬بزوال‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الساسانية،‭ ‬ووقوع‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬تحت‭ ‬الحكم‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭.‬

‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الأولى‭ ‬صارت‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الصراعات‭ ‬العسكرية‭ ‬دموية،‭ ‬وأطول‭ ‬نزاع‭ ‬عسكري‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬أحدثت‭ ‬أضرارا‭ ‬اقتصادية‭ ‬بالغة‭ ‬وتدميرا‭ ‬واسعا‭ ‬للبنية‭ ‬التحتية‭ ‬للبلدين،‭ ‬وخلفت‭ ‬نحو‭ ‬مليون‭ ‬قتيل‭ ‬من‭ ‬الجانبين،‭ ‬وأضعاف‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬من‭ ‬المصابين‭ ‬والمعاقين،‭ ‬وبلغت‭ ‬خسائرها‭ ‬المالية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬400‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬أميركي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

وللأسف‭ ‬الشديد،‭ ‬فإن‭ ‬أيًّا‭ ‬من‭ ‬البلدين‭ ‬لم‭ ‬يحقق‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الانتصار‭ ‬فيها،‭ ‬والأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬أيًا‭ ‬منهما‭ ‬لم‭ ‬يستوعب‭ ‬العبرة‭ ‬أو‭ ‬يتعلم‭ ‬الدرس،‭ ‬فبعد‭ ‬انتهائها‭ ‬بعامين‭ ‬ارتكب‭ ‬صدام‭ ‬خطأ‭ ‬أكثر‭ ‬جسامة،‭ ‬وحماقة‭ ‬أكبر‭ ‬فداحة،‭ ‬عندما‭ ‬احتل‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1990،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬السلوك‭ ‬الإيراني‭ ‬التوسعي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬أيًا‭ ‬من‭ ‬الدولتين‭ ‬وشعبيهما‭ ‬لم‭ ‬يذوقوا‭ ‬طعم‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الأولى،‭ ‬قبل‭ ‬أربعين‭ ‬عاما،‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭.‬