ومضة قلم

“في بيتنا سي السيد”

| محمد المحفوظ

من‭ ‬قرأوا‭ ‬ثلاثية‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنهم‭ ‬تعرفوا‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬على‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالجواد‭ ‬أو‭ ‬“سي‭ ‬السيد”،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬يؤكد‭ ‬أنّ‭ ‬شخصية‭ ‬“سي‭ ‬السيد”‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬الخيال،‭ ‬لكن‭ ‬كثيرين‭ ‬يجزمون‭ ‬بأنّها‭ ‬شخصية‭ ‬واقعية‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬غالبية‭ ‬الأسر‭ ‬وتمارس‭ ‬تسلطها‭ ‬وجبروتها‭ ‬على‭ ‬المرأة‭/‬الزوجة،‭ ‬وكما‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬“أمينة”‭ ‬الزوجة‭ ‬المطيعة‭ ‬المنفذة‭ ‬لطلبات‭ ‬سي‭ ‬السيد‭ ‬دون‭ ‬إبداء‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الاعتراض‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬التبرم‭.‬

الذي‭ ‬هو‭ ‬مؤكد‭ ‬بنسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬جدا‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الزوجة‭ ‬من‭ ‬مهمات‭ ‬بيتية‭ ‬يمثل‭ ‬النسبة‭ ‬الأكبر،‭ ‬بيد‭ ‬أنّ‭ ‬التساؤل‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬الرجل؟‭ ‬نستطيع‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬دوره‭ ‬يمثل‭ ‬غيابا‭ ‬شبه‭ ‬كامل،‭ ‬وحتى‭ ‬أثناء‭ ‬تواجده‭ ‬فإنّه‭ ‬الحاضر‭ ‬الغائب،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬يمارس‭ ‬أي‭ ‬دور‭ ‬يذكر‭.‬

لنتخيل‭ ‬لو‭ ‬أنّ‭ ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬تتطابق‭ ‬شخصياتهم‭ ‬مع‭ ‬سي‭ ‬السيد‭ ‬مارس‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬مهمات‭ ‬تنفذها‭ ‬بكل‭ ‬رضا‭ ‬وصبر،‭ ‬ولو‭ ‬ليوم‭ ‬واحد‭ ‬فقط،‭ ‬هل‭ ‬بوسعه‭ ‬النهوض‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الأعباء‭ ‬دون‭ ‬ضجر؟‭ ‬الإجابة‭ ‬القاطعة‭ ‬بالنفي‭. ‬المفارقة‭ ‬أنّ‭ ‬كل‭ ‬الجهد‭ ‬من‭ ‬ربة‭ ‬البيت‭ ‬كالغسيل‭ ‬والطهي‭ ‬وتربية‭ ‬الأطفال‭ ‬وغيرها‭ ‬للأسف‭ ‬لا‭ ‬يقابل‭ ‬من‭ ‬الزوج‭ ‬سي‭ ‬السيد‭ ‬بما‭ ‬يجب‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬شكر‭ ‬وامتنان‭ ‬كما‭ ‬يفترض‭ ‬تخفف‭ ‬عنها‭ ‬ما‭ ‬تكابده‭ ‬من‭ ‬عناء،‭ ‬وهذا‭ ‬بالطبع‭ ‬يمثل‭ ‬جحودا‭ ‬ونكرانا‭ ‬للجميل،‭ ‬نستثني‭ ‬قلة‭ ‬تتسم‭ ‬معاملتهم‭ ‬بالطابع‭ ‬الإنساني‭ ‬والحضاري‭.‬

أتذكر‭ ‬بين‭ ‬القصص‭ ‬النادرة‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬إنسانية‭ ‬وعرفانا‭ ‬بالجميل‭ ‬كما‭ ‬يرويها‭ ‬الابن‭ ‬أن‭ ‬والده‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬شاق‭ ‬ووضعت‭ ‬الزوجة‭ ‬أمامه‭ ‬الطعام،‭ ‬وكان‭ ‬بينه‭ ‬خبزا‭ ‬محمصا‭ ‬لكن‭ ‬الخبز‭ ‬كان‭ ‬محروقا‭ ‬تماما،‭ ‬فأخذ‭ ‬الزوج‭ ‬قطعة‭ ‬الخبز‭ ‬وابتسم‭ ‬لوالدتي‭ ‬وسألني‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬يومي‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬بماذا‭ ‬أجبته‭ ‬لكنني‭ ‬أتذكر‭ ‬أنني‭ ‬رأيته‭ ‬يدهن‭ ‬قطعة‭ ‬الخبز‭ ‬بالزبدة‭ ‬والمربى‭ ‬ويأكلها‭ ‬كلها،‭ ‬بعد‭ ‬الغداء‭ ‬سمعت‭ ‬أمي‭ ‬تعتذر‭ ‬لأبي‭ ‬عن‭ ‬حرقها‭ ‬الخبز‭ ‬بيد‭ ‬أنني‭ ‬لن‭ ‬أنسى‭ ‬رد‭ ‬أبي‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬“أنا‭ ‬أحب‭ ‬أحيانا‭ ‬أكل‭ ‬الخبز‭ ‬محمصا‭ ‬زيادة‭ ‬عن‭ ‬اللزوم”،‭ ‬وبعدها‭ ‬سألت‭ ‬أبي‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬فعلا‭ ‬يحب‭ ‬الخبز‭ ‬محترقا؟‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬“يا‭ ‬بني‭ ‬إن‭ ‬أمك‭ ‬اليوم‭ ‬كان‭ ‬لديها‭ ‬عمل‭ ‬شاق‭ ‬وقد‭ ‬أصابها‭ ‬التعب‭ ‬والإرهاق،‭ ‬وقطعة‭ ‬الخبز‭ ‬المحمصة‭ ‬لن‭ ‬تضر‭ ‬حتى‭ ‬الموت”‭.‬