قضية السلام بين الواقعية والمزايدات وتجارة الشعارات

| عبدالنبي الشعلة

حتى‭ ‬نهاية‭ ‬العقد‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬مسألة‭ ‬تحقيق‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬مرتبطة‭ ‬وموثوقة‭ ‬بحل‭ ‬الصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬بشأن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وكانت‭ ‬إسرائيل‭ ‬هي‭ ‬العدو،‭ ‬وكانت‭ ‬محصورة‭ ‬ضمن‭ ‬حدود‭ ‬معينة،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬امتداد‭ ‬أو‭ ‬طوابير‭ ‬خارج‭ ‬حدودها‭ ‬أو‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى،‭ ‬وكانت‭ ‬أساليب‭ ‬وأسلحة‭ ‬الصراع‭ ‬تقليدية‭ ‬ومعروفة،‭ ‬وكان‭ ‬المتضرّر‭ ‬الأول‭ ‬والأساسي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬هو‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المنكوب،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬المنطق‭ ‬والإنصاف‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬ولقيادته‭ ‬فقط‭ ‬القول‭ ‬الفصل‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬وأساليب‭ ‬معالجة‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬وحلها‭.‬

أما‭ ‬الآن‭ ‬فقد‭ ‬تبدّل‭ ‬الوضع‭ ‬واختلت‭ ‬الموازين‭ ‬واختلطت‭ ‬الأوراق،‭ ‬ودخل‭ ‬الساحة‭ ‬لاعبون‭ ‬آخرون‭ ‬لهم‭ ‬أهدافهم‭ ‬وأطماعهم،‭ ‬وحققوا‭ ‬اختراقًا‭ ‬وتمددًا‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬4‭ ‬عواصم‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬تقبع‭ ‬تحت‭ ‬نفوذ‭ ‬أجنبي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬القدس‭ ‬فقط‭ ‬واقعة‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1967‭.‬

اللاعبون‭ ‬أو‭ ‬الطامعون‭ ‬الجدد‭ ‬أصبحوا‭ ‬أعداءً‭ ‬جددًا،‭ ‬جاءوا‭ ‬بأساليب‭ ‬جديدة‭ ‬وأسلحة‭ ‬قديمة،‭ ‬استخدموا‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬غطاءً‭ ‬للتمويه‭ ‬“كوموفلاج”،‭ ‬وكوّنوا‭ ‬لهم‭ ‬أذرعًا‭ ‬أو‭ ‬قوى‭ ‬ضاربة‭ ‬سياسية‭ ‬وعسكرية‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الدول‭ ‬العربية؛‭ ‬أحزابًا‭ ‬وحشودًا‭ ‬ومليشيات‭ ‬مسلحة‭ ‬وقواعد‭ ‬عسكرية‭ ‬وجماعات‭ ‬دينية‭ ‬متطرفة‭ ‬موالية‭ ‬لهم،‭ ‬وهي‭ ‬أساليب‭ ‬لم‭ ‬تلجأ‭ ‬إليها‭ ‬إسرائيل‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬وسعها‭ ‬عمل‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬اللاعبين‭ ‬الجدد‭ ‬جعلوا‭ ‬من‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬“حصان‭ ‬طروادة”‭ ‬أو‭ ‬فرسًا‭ ‬يمتطونها‭ ‬لاختراق‭ ‬الحدود‭ ‬العربية‭ ‬فقط‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجرؤوا‭ ‬على‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬تراب‭ ‬الحدود‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وأصبح‭ ‬عندهم‭ ‬للقدس‭ ‬جيش‭ ‬لتحريرها‭ ‬عبر‭ ‬حدود‭ ‬4‭ ‬دول‭ ‬عربية،‭ ‬ولم‭ ‬يصل‭ ‬هذا‭ ‬الجيش‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬أو‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬القدس‭ ‬التي‭ ‬تبعد‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬أو‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬دمشق،‭ ‬ولم‭ ‬يطلق‭ ‬هذا‭ ‬الجيش‭ ‬رصاصة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الاتجاه‭.‬

وقد‭ ‬تجمّع‭ ‬الفاسدون‭ ‬والانتهازيون‭ ‬والمزايدون‭ ‬حول‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬سلعة‭ ‬مربحة،‭ ‬تكاثر‭ ‬حولها‭ ‬أيضًا‭ ‬الساعون‭ ‬للتكسب،‭ ‬والمتاجرون‭ ‬بمصائر‭ ‬الشعوب،‭ ‬وتجار‭ ‬البضائع‭ ‬البالية‭ ‬الفاسدة،‭ ‬وسماسرة‭ ‬الشعارات‭ ‬الفضفاضة‭ ‬المستهلكة،‭ ‬والمطبلون‭ ‬والمهرجون‭ ‬الحالمون‭ ‬ومخلفات‭ ‬الأحزاب‭ ‬والمشروعات‭ ‬القومية‭ ‬الفاشلة،‭ ‬أطراف‭ ‬وجماعات‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬مصلحة‭ ‬أي‭ ‬منها‭ ‬حل‭ ‬هذه‭ ‬القضية؛‭ ‬فحلها‭ ‬سيضطرهم‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬إغلاق‭ ‬دكاكينهم‭ ‬وإعلان‭ ‬إفلاسهم؛‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أدى‭ ‬بالنتيجة‭ ‬إلى‭ ‬فشل‭ ‬وإجهاض‭ ‬مشروعات‭ ‬ومحاولات‭ ‬الحلول‭ ‬لهذه‭ ‬القضية‭ ‬كافة،‭ ‬السلمية‭ ‬منها‭ ‬والعسكرية‭.‬

وهكذا‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قضية‭ ‬تحقيق‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬الصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬بشأن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬هي‭ ‬المنغّص‭ ‬الوحيد‭ ‬لاستتباب‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬أو‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد‭ ‬لاستمرار‭ ‬التوتر‭ ‬فيها،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬إسرائيل‭ ‬هي‭ ‬العدو‭ ‬الوحيد‭ ‬والطامع‭ ‬الوحيد‭ ‬والخطر‭ ‬الوحيد،‭ ‬فقد‭ ‬تغيّرت‭ ‬مواقع‭ ‬الأعداء‭ ‬والحلفاء،‭ ‬وتعددت‭ ‬مصادر‭ ‬المخاطر‭ ‬وتوسعت‭ ‬دوائر‭ ‬الصراع‭ ‬لتحيط‭ ‬بدول‭ ‬الخليج‭ ‬العربية،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬المتضرّر‭ ‬من‭ ‬استمرار‭ ‬العداء‭ ‬والصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وبقائه‭ ‬دون‭ ‬حل،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬إيجاد‭ ‬حل‭ ‬للصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬بشأن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬معقودًا‭ ‬أو‭ ‬منوطًا‭ ‬أو‭ ‬معتمدًا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬إرادة‭ ‬وأهواء‭ ‬القيادة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المنشقة‭ ‬والمنقسمة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬والتي‭ ‬أخفقت‭ ‬وخذلت‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ولم‭ ‬تفلح‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬حل‭ ‬لقضيته‭ ‬العادلة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬القيادة‭ ‬ضيّعت‭ ‬الفرصة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬الفرص‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬متاحة‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬مشرف‭ ‬لهذه‭ ‬القضية،‭ ‬فأصبح‭ ‬لزامًا‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى‭ ‬المتضررة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬ومن‭ ‬استمرار‭ ‬التوتر‭ ‬في‭ ‬المنطقة؛‭ ‬التحرك‭ ‬وأخذ‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬لمواجهة‭ ‬وتصفية‭ ‬الأطماع‭ ‬والتحديات‭ ‬والأخطار‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها‭ ‬ومصادرها،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬نصرة‭ ‬قضية‭ ‬السلام‭ ‬وإعلائها‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وعلى‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬يعي‭ ‬ويدرك‭ ‬أن‭ ‬معادلة‭ ‬تحقيق‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬قد‭ ‬انقلبت‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب؛‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬حل‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مفتاحًا‭ ‬أو‭ ‬شرطًا‭ ‬أو‭ ‬أساسًا‭ ‬لتحقيق‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬تحقيق‭ ‬السلام‭ ‬أولًا‭ ‬هو‭ ‬الطريق‭ ‬لحل‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭.‬

من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬تأتي‭ ‬أهمية‭ ‬ورجاحة‭ ‬الخطوة‭ ‬الشجاعة‭ ‬التي‭ ‬اتخذها‭ ‬جلالة‭ ‬عاهلنا‭ ‬المفدى‭ ‬الملك‭ ‬حمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬وسمو‭ ‬ولي‭ ‬عهد‭ ‬أبو‭ ‬ظبي‭ ‬نائب‭ ‬القائد‭ ‬الأعلى‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة‭ ‬بدولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬زايد‭ ‬آل‭ ‬نهيان؛‭ ‬هذان‭ ‬الفارسان‭ ‬اللذان‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬لهما‭ ‬مسؤولياتهما‭ ‬الوطنية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬البقاء‭ ‬على‭ ‬مدرجات‭ ‬المتفرجين،‭ ‬وقرّرا‭ ‬النزول‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬السباق‭ ‬والانطلاق‭ ‬نحو‭ ‬آفاق‭ ‬السلام‭ ‬الرحبة‭. ‬وبهذه‭ ‬الخطوة‭ ‬أيضًا‭ ‬فقد‭ ‬كسبت‭ ‬قضية‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬زخمًا‭ ‬متجددًا‭ ‬من‭ ‬الدعم‭ ‬والمساندة،‭ ‬وكسبت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬صوتًا‭ ‬رزينًا‭ ‬صادقًا‭ ‬مدافعًا‭ ‬عنها‭ ‬بكل‭ ‬صلابة‭ ‬وإخلاص،‭ ‬ومن‭ ‬موقع‭ ‬قوة‭ ‬وثقة،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬ضعف‭ ‬بعد‭ ‬انهزام‭ ‬عسكري‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحصل‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

إن‭ ‬علينا‭ ‬جميعًا‭ ‬أن‭ ‬نساهم‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬عجلة‭ ‬السلام،‭ ‬وأن‭ ‬نقف‭ ‬وراء‭ ‬قيادتنا‭ ‬ونساندها‭ ‬ونشجّعها‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬وفي‭ ‬جهودها‭ ‬وجهادها‭ ‬لتحقيق‭ ‬السلام‭ ‬العادل‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬الحقوق‭ ‬المشروعة‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الشقيق‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬حل‭ ‬الدولتين‭ ‬ووفقًا‭ ‬للمبادرة‭ ‬العربية‭.‬