سوالف

رشق النفس بالحجارة بقصد الإيقاظ

| أسامة الماجد

عندما‭ ‬تقرأ‭ ‬للفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬“جان‭ ‬جرنيه”‭ ‬تكون‭ ‬أشبه‭ ‬بالذي‭ ‬يركض‭ ‬خلف‭ ‬الحقيقة‭ ‬الصاعدة‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬أو‭ ‬الهابطة‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬الأرفع،‭ ‬تكون‭ ‬أمام‭ ‬قوة‭ ‬سباقة‭ ‬ومبدعة‭ ‬وكاشفة‭ ‬أمامك‭ ‬الكلمات‭ ‬للمثول‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬الأحداث‭ ‬ورشق‭ ‬النفس‭ ‬بالحجارة‭ ‬بقصد‭ ‬الإيقاظ،‭ ‬وقدر‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬النسخة‭ ‬العربية‭ ‬المترجمة‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬القديم‭ ‬“الحياة‭ ‬اليومية”‭ ‬من‭ ‬إصدارات‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬أستاذا‭ ‬في‭ ‬السوربون‭.‬

ينطلق‭ ‬جان‭ ‬جرنيه‭ ‬وراء‭ ‬خياله‭ ‬للتفكير‭ ‬في‭ ‬أشد‭ ‬التجارب‭ ‬تواضعا‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬وفي‭ ‬الخبرات‭ ‬العادية‭ ‬جدا‭ ‬للكائنات،‭ ‬فالفلسفة‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬ليست‭ ‬إلا‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬عذرية‭ ‬الطفولة‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬نلحظه‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬ونصاب‭ ‬بالدهشة‭ ‬للأشياء‭ ‬التي‭ ‬تأخذ‭ ‬مجراها‭ ‬العادي‭. ‬الحركات‭ ‬والطقوس،‭ ‬ولعبة‭ ‬الحياة‭ ‬المألوفة،‭ ‬فتلك‭ ‬الحركات‭ ‬إنما‭ ‬تصنع‭ ‬أسلوب‭ ‬كل‭ ‬إنسان،‭ ‬بينما‭ ‬تشكل‭ ‬الطقوس‭ ‬أسلوب‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭.‬

ويتساءل‭ ‬جرنيه‭... ‬وما‭ ‬الأسلوب؟‭ ‬إنه‭ ‬أولا‭ ‬طريقة‭ ‬في‭ ‬التصرف‭ ‬والكينونة،‭ ‬وما‭ ‬السفر،‭ ‬والقراءة،‭ ‬والنوم،‭ ‬والتدخين؟‭ ‬ما‭ ‬المعنى‭ ‬الدفين‭ ‬لتلك‭ ‬الأفعال؟‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬ميلنا‭ ‬إلى‭ ‬التبغ‭ ‬مثلا‭.. ‬إن‭ ‬التبغ‭ ‬الذي‭ ‬يعطي‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬النشوة‭ ‬يبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬يخفف‭ ‬الجسد‭ ‬من‭ ‬أثقاله،‭ ‬والعقل‭ ‬كذلك‭. ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬رجال‭ ‬الفعل‭ ‬يقدرون‭ ‬قيمة‭ ‬التبغ،‭ ‬فنابليون‭ ‬الأول‭ ‬كان‭ ‬يستنشق‭ ‬التبغ‭ ‬لكسب‭ ‬معركة‭ ‬أوسلترلتز،‭ ‬ونابليون‭ ‬الثالث‭ ‬كان‭ ‬يدخن‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يضم‭ ‬السافور‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭.‬

ولا‭ ‬يرد‭ ‬جان‭ ‬جرنيه‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرحه،‭ ‬لكنه‭ ‬يواصل‭ ‬التحليل‭ ‬بنفس‭ ‬المنطق‭ ‬الهادئ‭ ‬مؤكدا‭ ‬بالتساؤل‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬أهي‭ ‬النزوة‭ ‬الكامنة‭ ‬وراء‭ ‬تلك‭ ‬العادات؟‭ ‬ومجيبا‭ ‬بهذه‭ ‬المرة‭ ‬بنعم،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬المرء‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬العالم‭ ‬بالتدخين،‭ ‬لكن‭ ‬التبغ‭ ‬رمز‭ ‬لهذا‭ ‬الامتلاك،‭ ‬ونحن‭ ‬نتصرف‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬قبضة‭ ‬من‭ ‬التبغ،‭ ‬وكما‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬باستهلاكنا‭ ‬له‭ ‬إنما‭ ‬نجعل‭ ‬العالم‭ ‬عالمنا،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬إلا‭ ‬دخاننا‭ ‬الذي‭ ‬ننفثه،‭ ‬حلمنا،‭ ‬وهو‭ ‬حلم‭ ‬لا‭ ‬يقضى‭ ‬بالعزلة،‭ ‬إنما‭ ‬يجعل‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬شعور‭ ‬بالرضى‭... ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬شعور‭ ‬بالرضى‭. ‬مشاهد‭ ‬جان‭ ‬جرنيه‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬معظمها‭ ‬لقطات‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬النفس‭ ‬مرسومة‭ ‬بمهارة‭.‬