ريشة في الهواء

أيلول الأصفر

| أحمد جمعة

الحياة‭ ‬نسيج‭ ‬حِيك‭ ‬بتوليدٍ‭ ‬متناقض،‭ ‬غُزِلَت‭ ‬خيوطه‭ ‬بقصدِ‭ ‬الإبهار،‭ ‬إنها‭ ‬الصورة‭ ‬لوهلةٍ‭ ‬ويُخْلَق‭ ‬منها‭ ‬العالم‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تذوب‭ ‬لصورٍ‭ ‬أخرى‭ ‬جزئية،‭ ‬فتتحول‭ ‬الأشياء‭ ‬إلى‭ ‬خلافِ‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه،‭ ‬أرى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الخريف‭ ‬الذي‭ ‬يرمز‭ ‬في‭ ‬غفلةٍ‭ ‬للموت‭ ‬والذبول‭ ‬والأفول،‭ ‬إذ‭ ‬تذوي‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬المرء‭ ‬الكسول،‭ ‬إلى‭ ‬أشياءٍ‭ ‬سطحية،‭ ‬وتأفل،‭ ‬وهي‭ ‬نظرة‭ ‬قاصرة‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬تساقط‭ ‬أوراق‭ ‬الشجر‭ ‬ويباس‭ ‬الأرض‭ ‬مع‭ ‬ذوي‭ ‬الأزهار‭.‬

أرى‭ ‬الخريف‭ ‬بعيونٍ‭ ‬مختلفة‭ ‬عكس‭ ‬غيري،‭ ‬فهو‭ ‬ينبوع‭ ‬للنمو‭ ‬وليس‭ ‬رمزا‭ ‬للاحتراق‭ ‬والاصفرار‭ ‬الذي‭ ‬يبديه‭ ‬الخريف‭ ‬بلونهِ‭ ‬الجميل‭ ‬الأخاذ‭... ‬انظر‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬يشكل‭ ‬بساطاً‭ ‬أصفر،‭ ‬أحبذهُ‭ ‬على‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭! ‬الخريف‭ ‬زهرة‭ ‬العام‭ ‬فيه‭ ‬بدايات‭ ‬الشتاء،‭ ‬يتسلل‭ ‬الخريف‭ ‬ومن‭ ‬معطفه‭ ‬تزهر‭ ‬الحياة‭ ‬ثانيةً‭ ‬بلون‭ ‬الثلج‭ ‬الأبيض‭. ‬لا‭ ‬تُحدق‭ ‬للأشجار‭ ‬وهي‭ ‬بلا‭ ‬أوراق‭ ‬ولا‭ ‬ترمق‭ ‬الأوراق‭ ‬بلا‭ ‬لون،‭ ‬تأمّل‭ ‬هذه‭ ‬الأوراق‭ ‬اليابسة‭ ‬إيذاناً‭ ‬ببوادر‭ ‬أوراق‭ ‬جديدة‭ ‬وأشجار‭ ‬خضراء‭ ‬وبرد‭ ‬جميل‭! ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬ينمو‭ ‬من‭ ‬ساقِ‭ ‬الخريف،‭ ‬بعكسِ‭ ‬الربيع‭ ‬الذي‭ ‬يحزنني‭! ‬لأنه‭ ‬يُذكرني‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأزهار‭ ‬اليانعة‭ ‬وهذه‭ ‬الأوراق‭ ‬والألوان‭ ‬الزاهية‭ ‬وقوس‭ ‬قزح‭ ‬الشتاء‭ ‬الذي‭ ‬يلمع‭ ‬من‭ ‬شعاع‭ ‬بقايا‭ ‬رذاذ‭ ‬المطر‭ ‬هو‭ ‬زوال‭ ‬لهذه‭ ‬اللوحة‭ ‬التي‭ ‬أحرقتها‭ ‬شمس‭ ‬الصيف‭ ‬السمجة‭.‬

هذه‭ ‬الرؤية،‭ ‬حياكة‭ ‬بالمُتَخيل‭ ‬والمُتناقض،‭ ‬تستنبط‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬وليس‭ ‬العكس،‭ ‬والإشكالية‭ ‬بعيون‭ ‬السطحي‭ ‬المتكاسل‭ ‬أنه‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬ولكنه‭ ‬يختبئ‭ ‬تحت‭ ‬قشرة‭ ‬الموت‭! ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬الموت‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الحياة‭ ‬إذ‭ ‬تتدفق‭ ‬الأرواح‭ ‬الملونة‭ ‬بالزهر،‭ ‬حياة‭ ‬تنبض‭ ‬بالتناسل‭ ‬وكأنها‭ ‬تستنسخ‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬داخلها‭!‬

عندما‭ ‬أنسجُ‭ ‬خيوط‭ ‬رواية‭ ‬جديدة،‭ ‬أحرص‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ذكية‭ ‬بمضمونها،‭ ‬وإتقانها‭... ‬أعتمد‭ ‬التآلف‭ ‬والتصادم‭ ‬مع‭ ‬شخصيات‭ ‬أخلقها‭ ‬بالكلمات‭ ‬ولكنها‭ ‬بغزلٍ‭ ‬مُتْقَن‭ ‬وخلقٍ‭ ‬حذق‭ ‬تجرني‭ ‬بشغفٍ‭ ‬مفرط‭ ‬لتكوين‭ ‬أرواح‭ ‬حية‭ ‬شبيهة‭ ‬بالأرواح‭ ‬السابحة‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬أغلبنا‭ ‬يظن‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬الرواية‭ ‬ويتفاعل‭ ‬بشدة‭ ‬مع‭ ‬الشخصيات‭ ‬والوقائع‭ ‬أنها‭ ‬مجرد‭ ‬مضيعة‭ ‬للوقت‭ ‬وتسلية‭ ‬أو‭ ‬تشويق،‭ ‬لكن‭ ‬حين‭ ‬تقرأ‭ ‬بعيونٍ‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬عيون‭ ‬القراءة‭ ‬الكسولة‭ ‬المتراخية،‭ ‬الآلية،‭ ‬سترى‭ ‬أرواحا‭ ‬بشرية‭ ‬حية،‭ ‬بشر‭ ‬يتحركون‭ ‬حولك،‭ ‬يتألمون‭ ‬ويفرحون‭ ‬ويتقاذفون‭ ‬الشتائم،‭ ‬تُخْلَق‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الذكية،‭ ‬بلا‭ ‬كلمات‭ ‬جاهزة‭ ‬معدة‭! ‬تنمو‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الكتابة‭ ‬وتنسلخ‭ ‬عن‭ ‬الكلمات‭ ‬والحروف‭ ‬لتخلق‭ ‬أرواحاً‭ ‬منتشية‭ ‬بالحياة‭ ‬واليقظة‭. ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تستند‭ ‬للخيال‭ ‬الواقعي‭ ‬المستنبط‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬الأشياء،‭ ‬إنها‭ ‬الخريف‭ ‬بأوراقهِ‭ ‬الصفراء،‭ ‬الرواية‭ ‬الذكية‭ ‬معالجة‭ ‬من‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الخيال‭ ‬وتقنية‭ ‬الواقع‭.‬

تنويرة‭: ‬الرواية‭ ‬زلزال‭ ‬غير‭ ‬مدمر‭.‬