عمود أكاديمي

هيغل آخر الفلاسفة الكبار

| د. باقر النجار

يمثل‭ ‬جورج‭ ‬فيلهام‭ ‬هيغل‭ ‬أحد‭ ‬فلاسفة‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬والذي‭ ‬مثلت‭ ‬أفكاره‭ ‬ركنا‭ ‬أساسيا‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬الفلسفة‭ ‬المثالية‭. ‬وهو‭ ‬بحق‭ ‬يمثل‭ ‬آخر‭ ‬الفلاسفة‭ ‬العظام‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المشاريع‭ ‬الفكرية‭ ‬الكبرى‭. ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬البعض،‭ ‬فأن‭ ‬هيغل‭ ‬“كان‭ ‬آخر‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الذين‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬النظام‭ ‬الفلسفي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث”‭.‬

ولد‭ ‬هيغل‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬أغسطس‭ ‬1770‭ ‬لعائلة‭ ‬بروسية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬شتونغارت،‭ ‬وهو‭ ‬ينتمي‭ ‬لعائلة‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل‭. ‬وقد‭ ‬مرت‭ ‬عليه‭ ‬منذ‭ ‬صغره‭ ‬أيام‭ ‬عصيبة‭ ‬شكلت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬شخصيته‭ ‬الانطوائية‭. ‬إذ‭ ‬فقد‭ ‬أمه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬وقتل‭ ‬أخوه‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬وأصيبت‭ ‬أخته‭ ‬التي‭ ‬ارتبط‭ ‬بها‭ ‬ارتباطا‭ ‬قويا‭ ‬بالجنون‭.‬

درس‭ ‬هيغل‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬اللاهوت‭ ‬بجامعة‭ ‬توبنغن،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬شكلت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬كتاباته‭ ‬الأولى‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬بعضها‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬“حياة‭ ‬اليسوع”،‭ ‬وكتاب‭ ‬“إيجابيات‭ ‬الدين‭ ‬المسيحي”،‭ ‬وكتاب‭ ‬“شذرات‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬والحب”‭ ‬وكتاب‭ ‬“روح‭ ‬المسيحية‭ ‬ومصيرها”‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬دراسته‭ ‬الأولى‭ ‬كانت‭ ‬لغاية‭ ‬تهيئته‭ ‬ليكون‭ ‬مرشدا‭ ‬دينيا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الصدفة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬نقلته‭ ‬لعالم‭ ‬الفلسفة‭ ‬ودراسة‭ ‬الواقع،‭ ‬إذ‭ ‬مثل‭ ‬انتقاله‭ ‬للعمل‭ ‬كمحاضر‭ ‬في‭ ‬“جامعة‭ ‬المدينة”‭ ‬والتي‭ ‬استمر‭ ‬العمل‭ ‬فيها‭ ‬دون‭ ‬أجر‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬حيث‭ ‬ساعده‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬على‭ ‬إصدار‭ ‬كتابه”‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬فخته‭ ‬وسيلينغ‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الفلسفي”،‭ ‬كما‭ ‬اشترك‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬شيلينغ‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬دورية‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬“مجلة‭ ‬النقد‭ ‬الفلسفي”‭ ‬لم‭ ‬تستمر‭ ‬طويلا‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬استطاع‭ ‬هيغل‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬فلسفي‭ ‬متقدم‭ ‬دمج‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والأخلاق‭ ‬والدين‭ ‬معتمدا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬فهمه‭ ‬لمثالية‭ ‬ايمانويل‭ ‬كانط‭ ‬والآراء‭ ‬السياسية‭ ‬لروشو‭.‬

وتشير‭ ‬بعض‭ ‬الكتابات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هيغل‭ ‬كان‭ ‬ثوريا‭ ‬في‭ ‬شبابه‭ ‬ومحافظا‭ ‬في‭ ‬كهولته،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬جاك‭ ‬دونت،‭ ‬وهو‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الهيغلية،‭ ‬ووفق‭ ‬بعض‭ ‬الوثائق‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬حوزته،‭ ‬يؤكد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هيغل‭ ‬قد‭ ‬بقي‭ ‬ملتزما‭ ‬لمبادئه‭ ‬الليبرالية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬شبابه،‭ ‬رغم‭ ‬انتمائه‭ ‬إلى‭ ‬أسرة‭ ‬بروتستانتية‭ ‬لوثرية‭. ‬فدراسته‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬اللاهوت‭ ‬وكتاباته‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬البعض‭ ‬يعتقد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬قد‭ ‬شكلت‭ ‬توجهاته‭ ‬الفكرية‭ ‬والفلسفية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬البعض‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬انتماءه‭ ‬للمذهب‭ ‬البروتستانتي‭ ‬قد‭ ‬شكل‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬شخصيته‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬التي‭ ‬دفعته‭ ‬لأن‭ ‬يخوض‭ ‬جولات‭ ‬من‭ ‬السجال‭ ‬الفكري‭ ‬ضد‭ ‬المذهب‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬تماهى‭ ‬كثيرا‭ ‬مع‭ ‬السياق‭ ‬السياسي‭ ‬القائم‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يوصف‭ ‬بكونه‭ ‬سياقا‭ ‬سياسيا‭ ‬سلطويا‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى،‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬إغراق‭ ‬هيغل‭ ‬في‭ ‬مثاليته‭ ‬جعلته‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬المحسوس،‭ ‬وهذا‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬أطروحته‭ ‬القائلة‭ ‬“إن‭ ‬أي‭ ‬فكر‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬ذا‭ ‬جدوى‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تمثل‭ ‬أدواته‭ ‬البحثية‭ ‬معينا‭ ‬على‭ ‬تفسير‭ ‬الواقع‭ ‬وتوضيحه”‭.‬

وقد‭ ‬أثرت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أفكاره‭. ‬إذ‭ ‬ساهمت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬أفكاره‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬الحرية‭. ‬إذ‭ ‬كتب‭ ‬ممتدحا‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬بعد‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬اندلاعها‭ ‬بالقول‭..‬”كانت‭ ‬إشراقة‭ ‬رائعة‭ ‬للشمس،‭ ‬كل‭ ‬العقول‭ ‬المفكرة‭ ‬رحبت‭ ‬بها‭. ‬وطافت‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬أحاسيس‭ ‬جميلة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭..‬”

أما‭ ‬الحدث‭ ‬الآخر‭ ‬غير‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬أثر‭ ‬فيه،‭ ‬فهي‭ ‬“الثورة‭ ‬الفلسفية‭ ‬الكانتية”‭ ‬والتي‭ ‬سبقت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬ببعض‭ ‬الوقت‭ ‬والتي‭ ‬مثلت‭ ‬أحد‭ ‬الروافد‭ ‬الفكرية‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭... ‬وكانت‭ ‬أهميتها‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬هي‭ ‬تأكيدها‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬الفكر‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬تغيرات‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وهي‭ ‬أفكار‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬قد‭ ‬صاغة‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬السياقات‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭.‬

وختاما‭ ‬فلابد‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬المقولة‭ ‬الهيغلية‭ ‬قد‭ ‬مثلت‭ ‬ومازالت‭ ‬تمثل‭ ‬ركنا‭ ‬أساسيا‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي‭ ‬المعاصر‭ ‬وهي‭ ‬أطروحة‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬تطورها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬الفكرية‭ ‬الحديثة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬وهي‭ ‬الفكرة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬البنى‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬تغيرات‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬البنى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية،‭ ‬وهي‭ ‬تغيرات‭ ‬باتت‭ ‬تشكل‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭ ‬بكل‭ ‬مواقعه‭ ‬الجغرافية‭ ‬والسياسية‭.‬

ويشارك‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬احتفاء‭ ‬بعيد‭ ‬ميلاد‭ ‬جورج‭ ‬هيغل،‭ ‬والذي‭ ‬يصادف‭ ‬يوم‭ ‬السابع‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭ ‬الحالي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الإخوة‭ ‬البحرينيين‭ ‬من‭ ‬المهتمين‭ ‬بالجوانب‭ ‬الفلسفية‭ ‬والفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الهيغلي‭...‬

 

المصادر‭.‬

1‭ - ‬https‭:/‬‏‏‭/‬‏‏en.wikipedia.org‭/‬‏‏wiki‭/‬‏‏Georg_Wilhelm_Friedrich_Hegel

2‭ - ‬هاشم‭ ‬صالح،‭ ‬هيغل‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬له،‭ ‬الحوار‭ ‬المتمدن،‭ ‬24‭ ‬يونيه‭ ‬2002‭.‬