“أفْ... مللْ”

| هدى حرم

“أفْ‭... ‬مللْ”‭ ‬كلمتان‭ ‬تتكرران‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬لسانِ‭ ‬الشبابِ‭ ‬في‭ ‬عصرِ‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬والعولمة؛‭ ‬فنراهم‭ ‬فجأةً‭ ‬وعلى‭ ‬حينِ‭ ‬غرة،‭ ‬يعلو‭ ‬صوتُهم‭ ‬بالضجر‭ ‬والتأففِ‭ ‬لعدم‭ ‬وجودِ‭ ‬ما‭ ‬يفعلونه‭ ‬أو‭ ‬يتسلونَ‭ ‬بالقيامِ‭ ‬به،‭ ‬فهل‭ ‬همْ‭ ‬حقاً‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬عدمِ‭ ‬وجود‭ ‬عملٍ‭ ‬يُزاولونه‭ ‬أم‭ ‬أنهم‭ ‬واقعونَ‭ ‬في‭ ‬جُبٍّ‭ ‬سحيقٍ‭ ‬من‭ ‬الفراغِ‭ ‬والكسل؟

بينما‭ ‬يعملُ‭ ‬الآخرونَ‭ ‬ويكدحونَ‭ ‬كدحاً‭ ‬حتى‭ ‬يُلاقوا‭ ‬ربَهم،‭ ‬تضجر‭ ‬فئةٌ‭ ‬من‭ ‬الشبابِ‭ ‬من‭ ‬الجلوسِ‭ ‬بلا‭ ‬شغلٍ‭ ‬ولا‭ ‬عمل،‭ ‬وكأن‭ ‬الأعمالَ‭ ‬انقرضتْ‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض،‭ ‬يضجرون‭ ‬لأنهم‭ ‬أنهوا‭ ‬كلَّ‭ ‬الأدوارِ‭ ‬في‭ ‬لعبةٍ‭ ‬إلكترونيةٍ‭ ‬ما،‭ ‬يضجرونَ‭ ‬لأنَّ‭ ‬مسلسلَهم‭ ‬انتهتْ‭ ‬حلقاتُه‭ ‬الطويلة،‭ ‬يملُّونَ‭ ‬إن‭ ‬لمْ‭ ‬يبقَ‭ ‬ما‭ ‬يفعلونه‭ ‬بهواتفِهم‭ ‬النقالة،‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يتحدثُ‭ ‬معهم‭ ‬أحد،‭ ‬ويعلو‭ ‬ضجيجُهم‭ ‬إنْ‭ ‬توقفَ‭ ‬الإرسالُ‭ ‬بسبب‭ ‬الشبكة،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬يضعُف؛‭ ‬فيخرجونَ‭ ‬من‭ ‬مخابئهم‭ ‬كما‭ ‬يخرجُ‭ ‬الجندُ‭ ‬في‭ ‬حملةِ‭ ‬رجلٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬لينهالوا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬أوقفَ‭ ‬الإرسالَ‭ ‬بالشتائم،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬سيبقى‭ ‬لديهم‭ ‬للقيام‭ ‬به‭ ‬إن‭ ‬توقفت‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬عن‭ ‬العمل؟‭! ‬

هؤلاء‭ ‬المتأففون‭ ‬يتنفسونَ‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مختلفٍ‭ ‬عنا؛‭ ‬فشهيقُهم‭ (‬أفْ‭) ‬وزفيرُهم‭ (‬ملل‭)‬،‭ ‬حتى‭ ‬أنهم‭ ‬يتدحرجونَ‭ ‬في‭ ‬مواضعهم‭ ‬ممتعضين‭ ‬أو‭ ‬يتجولون‭ ‬من‭ ‬غرفةٍ‭ ‬لأخرى‭ ‬وهم‭ ‬ينفثونَ‭ ‬دخانَ‭ ‬التأففِ‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬الآخرين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬ذنبَ‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬أنهم‭ ‬يعيشون‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬ذاته،‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكسالى‭ ‬لا‭ ‬طاقةَ‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬والإنتاج،‭ ‬لكنهم‭ ‬يتمتعونَ‭ ‬بطاقةٍ‭ ‬سلبيةٍ‭ ‬جبارة‭ ‬ينشرونها‭ ‬كالمبيدِ‭ ‬الحشري‭ ‬في‭ ‬الأماكنِ‭ ‬التي‭ ‬يتواجدونَ‭ ‬فيها،‭ ‬وقد‭ ‬يُؤثِّرونَ‭ ‬سلباً‭ ‬إما‭ ‬ببثِ‭ ‬روحِ‭ ‬الضجرِ‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الآخرين،‭ ‬أو‭ ‬بخلقِ‭ ‬حالةٍ‭ ‬من‭ ‬التوتر‭ ‬والاضطرابِ‭ ‬لدى‭ ‬المحيطين‭ ‬بهم‭.‬

ولا‭ ‬تقتصرُ‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرةُ‭ ‬على‭ ‬الشبابِ‭ ‬وحده‭ ‬حتى‭ ‬نكون‭ ‬أكثرَ‭ ‬إنصافاً،‭ ‬فهنالك‭ ‬جمعٌ‭ ‬من‭ ‬الكُسالى‭ ‬البالغينَ‭ ‬أيضاً،‭ ‬ويظهرُ‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المتأففين‭ ‬ليسوا‭ ‬كُسالى‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إنهم‭ ‬عميٌ‭ ‬وصُمٌ‭ ‬كذلك؛‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يرونَ‭ ‬مَنْ‭ ‬حولَهم‭ ‬وهم‭ ‬يُضنونَ‭ ‬أنفسَهم‭ ‬بالعملِ‭ ‬الدؤوب،‭ ‬فيَعرِضوا‭ ‬المساعدةَ‭ ‬عليهم‭ ‬أو‭ ‬يمدوا‭ ‬لهم‭ ‬يدَ‭ ‬العون،‭ ‬أو‭ ‬يضطلعوا‭ ‬بمسؤولياتِهم‭ ‬تجاهَ‭ ‬أسرِهم‭ ‬ومجتمعِهم‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬يكشفوا‭ ‬عن‭ ‬مواهبهم‭ ‬وإبداعاتهم،‭ ‬ولهم‭ ‬أقول،‭ ‬أما‭ ‬آنَ‭ ‬الأوان‭ ‬لأن‭ ‬تنفضوا‭ ‬عنكم‭ ‬غبارَ‭ ‬الكسلِ‭ ‬وتُشمِّروا‭ ‬سواعدِ‭ ‬الإنتاجِ‭ ‬والبناء‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تجدوا‭ ‬للأف‭ ‬وقتا‭ ‬ولا‭ ‬للمللِ‭ ‬مكانا؟‭!.‬