زبدة القول

إنها معايير العصر

| د. بثينة خليفة قاسم

في‭ ‬أزمنة‭ ‬المظاهر‭ ‬تضيع‭ ‬قيم‭ ‬كثيرة‭ ‬ولا‭ ‬تكون‭ ‬للمضمون‭ ‬أية‭ ‬قيمة،‭ ‬طالما‭ ‬أنك‭ ‬غني‭ ‬الكل‭ ‬يسعى‭ ‬إليك‭ ‬وتدبج‭ ‬في‭ ‬مديحك‭ ‬الجمل‭ ‬والقصائد،‭ ‬أنت‭ ‬خاوي‭ ‬العقل‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬أو‭ ‬تقنع‭ ‬دجاجة،‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬فالكل‭ ‬سيستمع‭ ‬إليك‭ ‬ويهز‭ ‬لك‭ ‬رأسه‭ ‬ويتخذ‭ ‬كلامك‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬تفاهته‭ ‬حكماً‭ ‬بليغة،‭ ‬أما‭ ‬الآخر‭ ‬فليس‭ ‬حرياً‭ ‬بأن‭ ‬يستمع‭ ‬إليه‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬نطق‭ ‬بالعلم‭ ‬والحكمة‭.‬

في‭ ‬رواية‭ ‬تسمى‭ ‬“مدام‭ ‬شلاطة”‭ ‬للكاتب‭ ‬المصري‭ ‬وحيد‭ ‬غازي،‭ ‬جاءت‭ ‬عبارة‭: ‬“نحن‭ ‬في‭ ‬زمن،‭ ‬السيقان‭ ‬تدر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬العقول،‭ ‬سيقان‭ ‬لاعبي‭ ‬الكرة‭ ‬وسيقان‭ ‬الراقصات”،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كهذا‭ ‬قلما‭ ‬يكون‭ ‬النجاح‭ ‬حليف‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يلتزم‭ ‬ببهرجة‭ ‬ومظاهر‭ ‬ومساحيق‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬العجيب،‭ ‬فعندما‭ ‬أعلن‭ ‬عن‭ ‬فوز‭ ‬“سوزان‭ ‬بويل”‭ ‬بالمركز‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭ ‬الموهوبين‭ ‬للغناء،‭ ‬اعتبر‭ ‬هذا‭ ‬الخبر‭ ‬كبيراً‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬عض‭ ‬كلب‭ ‬رجلاً‭ ‬فهذا‭ ‬ليس‭ ‬خبراً،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬عض‭ ‬رجلٌ‭ ‬كلباً‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬الخبر‭.‬

لم‭ ‬يتوقع‭ ‬أحدٌ‭ ‬أن‭ ‬تفوز‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬بمسابقة‭ ‬كهذه،‭ ‬لأن‭ ‬شكلها‭ ‬الخارجي‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬له‭ ‬بقوانين‭ ‬هذا‭ ‬العصر،‭ ‬حيث‭ ‬الغناء‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بأي‭ ‬مضمون،‭ ‬فلا‭ ‬كلمات،‭ ‬ولا‭ ‬لحن،‭ ‬ولا‭ ‬صوت،‭ ‬لكن‭ ‬الغناء‭ ‬أصبح‭ ‬مؤهلات‭ ‬تهتز‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الاتجاهات‭ ‬–‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة،‭ ‬وإلى‭ ‬أعلى‭ ‬وأسفل‭- ‬وسيقان‭ ‬تتشابك،‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬الإنسان‭ ‬يعرف‭ ‬سيقان‭ ‬البنات‭ ‬من‭ ‬سيقان‭ ‬الشباب‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬الإبداع‭ ‬هكذا،‭ ‬فلا‭ ‬مجال‭ ‬أبداً‭ ‬لتقدم‭ ‬أصحاب‭ ‬المواهب‭ ‬الحقيقية،‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬شكلهم‭ ‬الخارجي‭ ‬لا‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬معايير‭ ‬العصر‭ ‬الرديء،‭ ‬قديماً‭ ‬أيضاً‭ ‬كان‭ ‬الشكل‭ ‬يخدع‭ ‬والإنسان‭ ‬يخطئ‭ ‬في‭ ‬تقديره‭ ‬البشر‭ ‬وما‭ ‬يحملونه‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬وحكمة،‭ ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬الموهبة‭ ‬الحقيقية‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬العالم‭ ‬بهذا‭ ‬الضجيج‭ ‬والنفاق‭.‬

يُحكى‭ ‬أن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الكبار‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬لقصر‭ ‬الخليفة‭ ‬ليمدحوه،‭ ‬وينالوا‭ ‬عطاياه‭ ‬كعادة‭ ‬الشعراء‭ ‬المدّاحين،‭ ‬فتبعهم‭ ‬رجل‭ ‬رث‭ ‬الثياب،‭ ‬ولا‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬هيئته‭ ‬أنه‭ ‬يحمل‭ ‬علماً‭ ‬أو‭ ‬شعراً‭ ‬أو‭ ‬حكمة،‭ ‬وتبعهم‭ ‬هذا‭ ‬الفقير‭ ‬بجرة‭ ‬كان‭ ‬يحملها‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬الخليفة،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تبارى‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬أصحاب‭ ‬الأسماء‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬الخليفة،‭ ‬وأخذوا‭ ‬العطايا،‭ ‬استدار‭ ‬الخليفة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الفقير،‭ ‬معتقداً‭ ‬أنه‭ ‬جاء‭ ‬يطلب‭ ‬إحساناً‭ ‬وسأله‭ ‬عن‭ ‬مسألته،‭ ‬فقال‭ ‬الرجل‭ ‬“لما‭ ‬رأيتُ‭ ‬القوم‭ ‬أقبل‭ ‬جمعهم،‭ ‬إلى‭ ‬بحرك‭ ‬الطامي‭ ‬أتيتُ‭ ‬بجرتي”‭.‬

فنال‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬رضا‭ ‬الخليفة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬سمعها،‭ ‬فملأ‭ ‬له‭ ‬الجرة‭ ‬بالذهب‭ ‬مكافأةً‭ ‬له،‭ ‬وانصرف‭ ‬هذا‭ ‬الفقير،‭ ‬وعندما‭ ‬غادر‭ ‬القصر‭ ‬قابله‭ ‬بعض‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬أمثاله،‭ ‬فاقتسم‭ ‬معهم‭ ‬الذهب‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬عليه،‭ ‬فاعتقد‭ ‬الحراس‭ ‬أنه‭ ‬مجنون‭ ‬فقادوه‭ ‬إلى‭ ‬الخليفة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬ولما‭ ‬سأله‭ ‬الخليفة‭ ‬عما‭ ‬فعله‭ ‬قال‭ ‬الرجل‭ ‬“علينا‭ ‬يجود‭ ‬الخيرون‭ ‬بمالهم،‭ ‬ونحن‭ ‬بمال‭ ‬الخيرين‭ ‬نجود”،‭ ‬فملأ‭ ‬له‭ ‬الخليفة‭ ‬جرته‭ ‬بالذهب‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬