قهوة الصباح

كل منا يجر خلفه وحشه الذي يأكل سعادته

| سيد ضياء الموسوي

كما‭ ‬توزع‭ ‬الأرزاق‭ ‬توزع‭ ‬الأحزان‭ ‬والأفراح‭. ‬كل‭ ‬منا‭ ‬يجر‭ ‬وحشه‭ ‬الذي‭ ‬يأكل‭ ‬سعادته‭. ‬الغني‭ ‬بعد‭ ‬الإشباع‭ ‬تأكله‭ ‬الوحدة،‭ ‬ويكفكف‭ ‬دمعه‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬الفراغ‭ ‬القاتل‭. ‬إنها‭ ‬التعاسة‭ ‬المرفهة‭ ‬التي‭ ‬بوضبها‭ ‬على‭ ‬رفوف‭ ‬الواقع‭ ‬والذاكرة‭. ‬العاطل‭ ‬ينشر‭ ‬شهاداته‭ ‬كثياب‭ ‬مبللة‭ ‬على‭ ‬حبال‭ ‬الخيبة‭ ‬وعينه‭ ‬على‭ ‬الشمس‭ ‬قد‭ ‬تشرق‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬على‭ ‬هاتف‭ ‬يرن‭ ‬من‭ ‬شركة‭ ‬أو‭ ‬وزارة‭ ‬أنه‭ ‬وفق‭ ‬لعمل‭. ‬المتكدسون‭ ‬على‭ ‬بوابة‭ ‬الإسكان‭ ‬عيونهم‭ ‬على‭ ‬وحدات‭ ‬إسكانية‭ ‬ربما‭ ‬تختصر‭ ‬مسافات‭ ‬الوجع‭ ‬المتشظي‭ ‬زجاجا‭ ‬منثورا‭ ‬في‭ ‬الأزمنة‭ ‬والأمكنة‭ ‬محطات‭ ‬انتظار‭ ‬وساعات‭ ‬انكسار‭. ‬وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬تجار‭ ‬صغار‭ ‬حجزوا‭ ‬لهم‭ ‬مقعدا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التجارة‭ ‬والاستثمار‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جمعوا‭ ‬عرق‭ ‬الزمان‭ ‬ومال‭ ‬المكان‭ ‬ووضعوا‭ ‬رقابهم‭ ‬لمشنقة‭ ‬البنوك‭ ‬التي‭ ‬وحدها‭ ‬تستطيع‭ ‬ركل‭ ‬كرسي‭ ‬الانتحار‭ ‬البطيء‭ ‬بشكوى‭ ‬لمحكمة‭ ‬لاسترداد‭ ‬القرض‭...‬مطاعم‭ ‬تنتحب،‭ ‬مقاهٍ‭ ‬تضع‭ ‬يدها‭ ‬على‭ ‬خدها،‭ ‬شركات‭ ‬طيران‭ ‬أصبحت‭ ‬بطائراتها‭ ‬أشبه‭ ‬بربة‭ ‬بيت،‭ ‬وعوائل‭ ‬محكومين‭ ‬من‭ ‬جنائيين‭ ‬وغير‭ ‬جنائيين‭ ‬ينتظرون‭ ‬هذا‭ ‬العيد‭ ‬بفارغ‭ ‬الصبر‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬إفراجات‭ ‬جديدة‭ ‬وفق‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬حيث‭ ‬إيجابيات‭ ‬القانون‭ ‬فاقت‭ ‬التوقعات،‭ ‬وأوجد‭ ‬ارتياحا‭ ‬عاما،‭ ‬وأعطى‭ ‬صورة‭ ‬حضارية‭ ‬للوطن‭.‬

وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬عاشق‭ ‬تغويه‭ ‬الدموع،‭ ‬وينام‭ ‬في‭ ‬أزقة‭ ‬الوجع‭ ‬أو‭ ‬يقف‭ ‬كعمود‭ ‬كهرباء‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬يتيم‭ ‬يرمق‭ ‬السفن‭ ‬القادمة‭ ‬أملا‭ ‬في‭ ‬عودة‭ ‬الحبيبة‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬سفينة‭ ‬قادمة‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬غياب‭. ‬كل‭ ‬منا‭ ‬يحمل‭ ‬وحشه‭ ‬الذي‭ ‬يأكل‭ ‬سعادته‭. ‬بين‭ ‬رأسمالي‭ ‬لا‭ ‬يشبع‭ ‬من‭ ‬حرق‭ ‬المال،‭ ‬وبين‭ ‬اشتراكي‭ ‬نسي‭ ‬الخبز‭ ‬وضاع‭ ‬مع‭ ‬العمر‭ ‬يروج‭ ‬لفنتازيا‭ ‬الأممية،‭ ‬وبين‭ ‬إسلاموي‭ ‬سياسي‭ ‬يعتاش‭ ‬على‭ ‬يوتوبيا‭ ‬الأحلام‭ ‬غير‭ ‬الواقعية‭ ‬ويعيش‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬افتراضية‭ ‬غير‭ ‬مسكونة‭ ‬بأحد،‭ ‬وبين‭ ‬علماني‭ ‬متطرف‭ ‬يروج‭ ‬للديمقراطية‭ ‬لكنه‭ ‬يهزأ‭ ‬بأي‭ ‬شعار‭ ‬ديني‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬الشعار‭ ‬معتدلا‭. ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقدموا‭ ‬وصفة‭ ‬علاج‭ ‬للبشرية‭ ‬والكون،‭ ‬لأن‭ ‬السعادة‭ ‬ليست‭ ‬بزيادة‭ ‬الطبقية‭ ‬وليس‭ ‬بنشر‭ ‬الايديولوجيات‭ ‬المتطرفة،‭ ‬بل‭ ‬بالاعتدال‭ ‬والتوازن‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬السويد‭ ‬والدانمارك‭ ‬والنرويج‭ ‬وكما‭ ‬هي‭ ‬سنغافورا‭ ‬وكيف‭ ‬تحولت‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬المستنقعات‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬المعجزات،‭ ‬أرجو‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬قراءة‭ ‬مذكرات‭ ‬العظيم‭ ‬لي‭ ‬كوان‭ ‬يو‭((‬قصة‭ ‬سنغافورة‭)). ‬مدن‭ ‬بها‭ ‬عيوب‭ ‬لكنها‭ ‬تجتهد‭ ‬لصناعة‭ ‬سعادة‭ ‬للبشر،‭ ‬وكلما‭ ‬تعملقت‭ ‬أنسنة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والقوانين‭ ‬وأنظمة‭ ‬السياسة‭ ‬والحقوق‭ ‬وترسخ‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬البشر‭ ‬بوجود‭ ‬عدالة‭ ‬إلهية‭ ‬ترمق‭ ‬الواقع‭ ‬كلما‭ ‬اقترب‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬السعادة‭ ‬والهدوء‭ ‬وراحة‭ ‬البال‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬ينظّر‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬أن‭ ‬التطرف‭ ‬عدو‭ ‬للحياة‭ ‬والسعادة‭ ‬بكل‭ ‬صوره‭ ‬كذلك‭ ‬نقول‭ ‬اليوم‭ ‬التطرف‭ ‬ضد‭ ‬السعادة‭ ‬أكان‭ ‬إسلاميا‭ ‬أو‭ ‬علمانيا،‭ ‬قوميا،‭ ‬اشتراكيا،‭ ‬أو‭ ‬رأسماليا‭. ‬

المفكر‭ ‬الروسي‭ ‬فاديم‭ ‬زيلاند‭ ‬اعتبره‭ ‬المفكر‭ ‬الذي‭ ‬اقتبس‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬الامام‭ ‬علي‭ ‬ع‭. ‬

من‭ ‬ضمن‭ ‬نظريته‭ ‬كي‭ ‬تعيش‭ ‬سعيدا‭ ((‬خفض‭ ‬أهمية‭ ‬الأشياء‭)) ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬أكان‭ ‬منصبا‭ ‬أو‭ ‬مالا‭ ‬أو‭ ‬حبا‭ ‬أو‭ ‬شهرة‭. ‬يقول‭ ‬الامام‭ ‬علي‭ ‬ع‭ (‬ليس‭ ‬الزهد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬شيئا،‭ ‬ولكن‭ ‬الزهد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يملكك‭ ‬شيئا‭)) ‬بمعنى،‭ ‬املك‭ ‬الدنيا‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬تجعلها‭ ‬تملكك‭. ‬ويقول‭: (‬السعيد‭ ‬من‭ ‬استهان‭ ‬بالمفقود‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬تبك‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬فقدته،‭ ‬حبيبا،‭ ‬مالا،‭ ‬جاها‭. ‬ويركز‭ ‬الامام‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬التجارة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭: ((‬من‭ ‬سعادة‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬متجره‭ ‬في‭ ‬بلاده‭)) ‬واختصر‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الالماني‭ ‬شوبنهاور‭ ‬الحياة‭ ‬بين‭ ‬اللذة‭ ‬والالم،‭ ‬والإمام‭ ‬علي‭ ‬ع‭ ‬يقول‭: ((‬أسعد‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬ترك‭ ‬لذة‭ ‬فانية‭ ‬للذة‭ ‬باقية‭)). ‬وهذا‭ ‬موضوع‭ ‬يناقش‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬السعادة‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬مراكز‭ ‬بحثية‭ ‬في‭ ‬الانتثربولوجيا‭ ‬أن‭ ‬اللذة‭ ‬الإيجابية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تدوم‭ ‬وليست‭ ‬الآنية‭. ‬ويركز‭ ‬علماء‭ ‬الطاقة‭ ‬والبرمجة‭ ‬اللغوية‭ ‬والتحفيز‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬الإرادة‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬المشاريع،‭ ‬لكن‭ ‬الامام‭ ‬له‭ ‬جانب‭ ‬اخر‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭:((‬ما‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬نوى‭ ‬شيئا‭ ‬قدر‭ ‬عليه،‭ ‬ولا‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قدر‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬وفق‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬وفق‭ ‬أصاب‭ ‬موضعا‭ ‬له،‭ ‬فإذا‭ ‬اجتمعت‭ ‬النية‭ ‬والقدرة‭ ‬والتوفيق‭ ‬والإصابة‭ ‬فهنالك‭ ‬تمت‭). ‬يركز‭ ‬الامام‭ ‬علي‭ ‬ع‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬السكن‭ ‬والدار،‭ ‬فأول‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تشتريه‭ ‬منزل‭ ‬العمر،‭ ‬واخر‭ ‬ما‭ ‬تفكر‭ ‬أن‭ ‬تبيعه‭ ‬هو‭ ‬منزل‭ ‬العمر‭: ((‬لتكن‭ ‬دارك‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يبتاع‭ (‬يشترى‭)‬،‭ ‬وآخر‭ ‬ما‭ ‬يباع‭)). ‬

أقول‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬يجر‭ ‬وحشه‭ ‬الذي‭ ‬يأكل‭ ‬سعادته‭ ‬ولكن‭ ‬القوي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يتعاطى‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الوحش‭.‬