عندما تتطاير الأوراق

| د.حورية الديري

كان‭ ‬يا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬قديم‭ ‬الزمان‭ ‬وسالف‭ ‬العصر‭ ‬والأوان،‭ ‬وكأنني‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬لحكايات‭ ‬جدتي‭ ‬صيت‭ ‬وشأن،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭.. ‬جزيرة‭ ‬جميلة‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬شاب‭ ‬يدعى‭ ‬أموور،‭ ‬يحمل‭ ‬من‭ ‬اسمه‭ ‬الكثير‭ ‬فهو‭ ‬شخصية‭ ‬مرهفة‭ ‬عاطفية‭ ‬ويحب‭ ‬اللون‭ ‬الأحمر‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬عاش‭ ‬وحيدًا‭ ‬حزينًا‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬والدته،‭ ‬لذلك‭ ‬ازداد‭ ‬ارتباطه‭ ‬بالطبيعة‭ ‬حتى‭ ‬بدأ‭ ‬يرسم‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬ويستخدم‭ ‬اللون‭ ‬الأحمر‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬رسوماته،‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يقف‭ ‬متأملاً‭ ‬ما‭ ‬ينتج‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الرسومات‭ ‬من‭ ‬معان،‭ ‬فاكتشف‭ ‬بداخله‭ ‬شخصًا‭ ‬فنانًا،‭ ‬لكن‭ ‬الحزن‭ ‬مازال‭ ‬مستمرًا‭ ‬ومنعسكًا‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬لوحاته،‭ ‬حينها‭ ‬جاء‭ ‬بمجموعة‭ ‬أوراق‭ ‬من‭ ‬الشجر‭ ‬وكتب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يجول‭ ‬بخاطره‭ ‬من‭ ‬أمنيات‭ ‬وأحلام،‭ ‬واحتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬حاجياته‭.‬

مضى‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬عامان‭.. ‬وأموور‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الحال،‭ ‬يصحو‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬فيتوجه‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭ ‬المجاورة‭ ‬يجلس‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬مستمتعا‭ ‬بجمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬والهدوء،‭ ‬حتى‭ ‬باغتته‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬أعلنت‭ ‬عن‭ ‬هبات‭ ‬عاتية‭ ‬من‭ ‬رياح‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬لحظات‭ ‬الهدوء‭ ‬التي‭ ‬يعيشها،‭ ‬ليبدأ‭ ‬بطرح‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬“كيف‭ ‬أجعل‭ ‬لحياتي‭ ‬معنى؟”‭ ‬وأخذته‭ ‬سلسلة‭ ‬أفكاره‭ ‬في‭ ‬عتاب‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭.‬

انتابته‭ ‬لحظات‭ ‬صمت‭ ‬راح‭ ‬معها‭ ‬يتذكر‭ ‬أحاديث‭ ‬والدته‭ ‬قبل‭ ‬موتها‭ ‬ونصائحها‭ ‬له‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬سيد‭ ‬المحبة‭ ‬أينما‭ ‬وجدت،‭ ‬وصانع‭ ‬السعادة‭ ‬كيفما‭ ‬حلت،‭ ‬فاستفاق‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬منعته‭ ‬من‭ ‬الإحساس‭ ‬الفعلي‭ ‬بقيمة‭ ‬حياته‭ ‬وقوة‭ ‬ما‭ ‬لديه،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬توجه‭ ‬إلى‭ ‬ذاك‭ ‬الصندوق‭ ‬العجيب‭ ‬وهو‭ ‬الشيء‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬تركته‭ ‬والدته‭ ‬له،‭ ‬استخرج‭ ‬تلك‭ ‬الأوراق‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬انتقاها‭ ‬بعناية‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المزرعة،‭ ‬وهاج‭ ‬بها‭ ‬مسرعًا‭ ‬مخاطبًا‭ ‬كل‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬لوحاته‭ ‬المرسومة‭ ‬على‭ ‬الجدران‭: ‬“الأمر‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬السعادة‭ ‬هو‭ ‬الحب،‭ ‬وأنا‭ ‬خلقت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحب‭ ‬وسأعطي‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬لوحاتي‭ ‬لتكون‭ ‬رسالة‭ ‬سامية‭ ‬للبشرية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحب‭ ‬والمحبة”‭.‬

حينها‭ ‬انتقل‭ ‬للنظر‭ ‬إلى‭ ‬أوراق‭ ‬الأشجار‭ ‬التي‭ ‬بيده‭ ‬ورفع‭ ‬عينيه‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬وفجأة‭ ‬تطايرت‭ ‬تلك‭ ‬الأوراق‭ ‬التي‭ ‬ظل‭ ‬محتفظا‭ ‬بها‭ ‬لسنوات،‭ ‬معلنا‭ ‬لحظة‭ ‬التحول‭ ‬للورقة‭ ‬الأقوى‭ ‬التى‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يمسك‭ ‬بها‭ ‬قبل‭ ‬وقوعها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وكانت‭ ‬هي‭ ‬السر‭ ‬الذي‭ ‬ساعده‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬ذاته‭ ‬وتغيير‭ ‬حياته‭ ‬نحو‭ ‬السعادة‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وراح‭ ‬يترجم‭ ‬تلك‭ ‬الأحاسيس‭ ‬في‭ ‬لوحاته‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬بيعت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬أكبر‭ ‬المعارض‭ ‬الفنية‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬وصارت‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬تجذب‭ ‬الهواة‭ ‬والفنانين‭.‬

العبرة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬الورقة‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬بإمكانها‭ ‬صناعة‭ ‬إنسان،‭ ‬فشخصية‭ ‬أموور‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬الحب‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معناها‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬والقوة‭ ‬السحرية‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الورقة‭ ‬التي‭ ‬أنقذت‭ ‬أموور‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬حياته‭ ‬ليكون‭ ‬إنسانًا‭ ‬وهاجًا،‭ ‬يعطي‭ ‬الحب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحب،‭ ‬لذا‭ ‬عزيزي‭ ‬القارئ،‭ ‬هلا‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬الورقة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬لحياتك‭ ‬معنى‭ ‬وأثرا؟‭.‬