لمحات

مدعو المفهومية

| د.علي الصايغ

ربما‭ ‬يكونون‭ ‬كثرا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬بلغ‭ ‬التخصص‭ ‬فيه‭ ‬أقصاه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬فلم‭ ‬نعد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الرازي‭ ‬وابن‭ ‬سينا‭ ‬والفارابي،‭ ‬ممن‭ ‬تبحروا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العلوم،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬وقتهم‭ ‬تتوافر‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل‭ ‬والمعلومات‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬اليوم،‭ ‬وإن‭ ‬سجلوا‭ ‬البدايات‭ ‬الأولى،‭ ‬وحق‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬يسموا‭ ‬حينها‭ ‬بالعلماء‭.‬

في‭ ‬حاضرنا،‭ ‬ترى‭ ‬“مدعي‭ ‬المفهومية”‭ ‬يبدون‭ ‬آراءهم‭ ‬أو‭ ‬ينتقدون‭ ‬شيئاً‭ ‬ما،‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي،‭ ‬وبلا‭ ‬معرفة‭ ‬وأسس‭ ‬علمية،‭ ‬فيفندوا‭ ‬بلا‭ ‬دراية‭ ‬ووعي،‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬كثيرة‭ ‬حيث‭ ‬الأعمال‭ ‬والأنشطة‭ ‬والمشاريع،‭ ‬وتراهم‭ ‬يقدمون‭ ‬أنفسهم‭ ‬كالجوكر‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬في‭ ‬الإعلام،‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬الفضاء،‭ ‬في‭ ‬الهندسة،‭ ‬في‭ ‬الطب،‭ ‬في‭ ‬الطبخ‭... ‬إلخ،‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬لقب‭ - ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ - ‬من‭ ‬على‭ ‬شاكلتهم‭ (‬بأبو‭ ‬العريف‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يستثني‭ ‬شيئاً‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬عنه‭ ‬شيئاً‭.‬

يصطدم‭ ‬العاملون‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإعلامي‭ ‬والفني‭ ‬كثيراً‭ ‬بمثل‭ ‬هؤلاء،‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬أي‭ ‬تخصص‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬بعيداً‭ ‬قليلاً‭ ‬عن‭ ‬الحسابات‭ ‬العلمية‭ ‬أو‭ ‬التقنية،‭ ‬وفيه‭ ‬مساحة‭ ‬كافية‭ ‬من‭ ‬التنظير،‭ ‬فتمنحهم‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬الفرصة‭ ‬للتفلسف‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬وللأسف‭ ‬الشديد،‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬فرص‭ ‬تنظيراتهم‭ ‬وتفلسفهم،‭ ‬عدم‭ ‬أخذ‭ ‬بعض‭ ‬أرباب‭ ‬الأعمال‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬ضرورة‭ ‬التخصص،‭ ‬والذي‭ ‬قد‭ ‬يسمح‭ ‬بدوره‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬التدخلات‭ ‬المؤدية‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬الأعمال‭ ‬أو‭ ‬المشاريع،‭ ‬وإلى‭ ‬انخفاض‭ ‬في‭ ‬مستويات‭ ‬الجودة‭ ‬والإبداع‭.‬

وإنه‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يبقي‭ ‬أي‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬تدخل‭ ‬مستمر‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬ناقة‭ ‬له‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬جمل،‭ ‬لن‭ ‬يتحقق‭ ‬شيء‭ ‬إيجابي‭ ‬يذكر،‭ ‬ولن‭ ‬يحرز‭ ‬أي‭ ‬تقدم،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يقتاد‭ ‬بفلسفات‭ ‬فارغة،‭ ‬لا‭ ‬أصل‭ ‬لها‭ ‬سوى‭ ‬التبذخ‭ ‬على‭ ‬الآخرين‭ ‬وادعاء‭ ‬المفهومية،‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬حال،‭ ‬يبقى‭ - ‬أولاً‭ ‬وأخيراً‭ - ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬مقتصراً‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬أخمص‭ ‬قدميه‭.‬