قهوة الصباح

احجار متساقطه من عقل اسمنتي

| سيد ضياء الموسوي

هاتفني‭ ‬وهو‭ ‬يبكي،‭ ‬متهدج‭ ‬صوته‭ ‬كغصن‭ ‬وسط‭ ‬ريح،‭ ‬ترتجف‭ ‬كلماته‭ ‬كعصفور‭ ‬على‭ ‬رصيف،‭ ‬مبحوحة‭ ‬حروفه‭ ‬كشيخ‭ ‬تعب‭ ‬من‭ ‬البكاء‭ ‬وأعباء‭ ‬السفر،‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬تتكدس‭ ‬حقائبٌ‭ ‬من‭ ‬ندم،‭ ‬وفي‭ ‬كلماته‭ ‬تنفعل‭ ‬سفنٌ‭ ‬تحمل‭ ‬حمولات‭ ‬تساؤلات‭. ‬كان‭ ‬منفعلا‭ ‬كنمرٍ،‭ ‬ومقسما‭ ‬كزجاج،‭ ‬ومنهكا‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬وأوجاعه،‭ ‬يتصبب‭ ‬عرق‭ ‬تساؤل،‭ ‬وعينه‭ ‬تغسل‭ ‬تمثال‭ ‬وجع‭ ‬محطمٍ‭ ‬بالأهداب‭. ‬بيده‭ ‬اليسرى‭ ‬شمعة‭ ‬عمره‭ ‬الذائبةُ‭ ‬من‭ ‬حماقات‭ ‬السياسة،‭ ‬وغباء‭ ‬الزعامات،‭ ‬ومراهقات‭ ‬تجار‭ ‬خطف‭ ‬الأعمار،‭ ‬وبيده‭ ‬اليمنى‭ ‬فسيلة‭ ‬أمل،‭ ‬يجذبه‭ ‬هذا‭ ‬الأمل‭ ‬لزرعها‭ ‬لحياة‭ ‬جديدة‭. ‬وحدها‭ ‬الصدماتُ‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إزالة‭ ‬الأتربة‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬مرآة‭ ‬الوجود؛‭ ‬لاكتشاف‭ ‬الحقيقة‭ ‬المستلقية‭ ‬إما‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬أو‭ ‬نائمة‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬معزول‭ ‬بزقاق‭ ‬مهجور‭ ‬أو‭ ‬تبكي‭ ‬فوق‭ ‬زاوية‭ ‬يتيمة‭ ‬بزنزانة‭ ‬أو‭ ‬متكورة‭ ‬على‭ ‬مصباح‭ ‬شارع‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬منفى‭. ‬

هكذا‭ ‬رأيت‭ ‬شبح‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬الثلايني‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬في‭ ‬الهاتف‭ ‬المرآة،‭ ‬إنه‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬نقرأها‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬فيرجينا‭ ‬وولف‭ ‬في‭ ‬الاكتئاب‭ ‬أودوستويفيسكي‭ ‬في‭ ‬مذكرات‭ ‬السجن‭ ‬أو‭ ‬تشارلز‭ ‬ديكنز‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬المتأخر‭ ‬أو‭ ‬فيكتور‭ ‬هيجو‭ ‬في‭ ‬البؤساء‭. ‬راح‭ ‬الشاب‭ ‬يقص‭ ‬عليَّ‭ ‬قصاصه‭ ‬العاطفي‭ ‬بسخاء،‭ ‬يحكي‭ ‬لي‭ ‬تجربته‭ ‬ولساعة‭ ‬متواصلة‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬قصصي‭ ‬متناسق‭ ‬تخرج‭ ‬منه‭ ‬فراشات‭ ‬زرقاء‭ ‬للأمل،‭ ‬وضباع‭ ‬متوحشة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬لآخر‭ ‬حجرة‭ ‬سقطت‭ - ‬مما‭ ‬أسماه‭ ‬هو‭- ‬بالعقل‭ (‬الإسمنتي‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬أتربة‭ ‬السياسة،‭ ‬أفكار‭ ‬تعلوها‭ ‬أتربة‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬عن‭ ‬وشاح‭ ‬عروس‭ ‬وتنفض‭ ‬الغبار‭ ‬عن‭ ‬قصص‭ ‬ودروس‭ ‬لوجع‭ ‬مثقوب‭. - ‬قال‭ ‬لي‭: ‬كشاب‭ ‬بحريني‭ ‬أنا‭ ‬كنت‭ ‬من‭ ‬المتفوقين‭ ‬دراسيا،‭ ‬وكان‭ ‬طموحي‭ ‬أن‭ ‬اصبح‭ ‬طبيبا،‭ ‬وأرتدي‭ ‬البالطو‭ ‬ذا‭ ‬اللون‭ ‬الأبيض،‭ ‬فاللون‭ ‬الأبيض‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬عليه‭ ‬بوضوح‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬متسخا‭ ‬بأشياء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬عدوى‭ ‬أو‭ ‬مرض،‭ ‬بالإضافة‭ ‬اللون‭ ‬الأبيض‭ ‬مرتبط‭ ‬بالعلوم‭ ‬الطبية،‭ ‬ويشير‭ ‬إلى‭ ‬النقاء‭ ‬والصفاء‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬الاستغلال‭ ‬السياسي‭ ‬سيقودني‭ ‬لبزة‭ ‬سجن‭. ‬ياسيد،‭ ‬فهمت‭ ‬الدين‭ ‬حبا‭ ‬ووطنا‭ ‬وعلما‭ ‬وأناقة‭ ‬ورياضة‭ ‬وموسيقى‭ ‬وتمتع‭ ‬بطبيعة‭ ‬وسفر‭ ‬اكتشاف‭ ‬العالم،‭ ‬ووسطية‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬وحب‭ ‬للأديان‭ ‬الأخرى‭. ‬تعلمت‭ ‬ألا‭ ‬أرفع‭ ‬شعارا‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬وطني،‭ ‬وأقف‭ ‬مع‭ ‬شعار‭ ‬يدعم‭ ‬وطني‭ ‬وقيادتي،‭ ‬وألا‭ ‬أسلم‭ ‬عقلي‭ ‬لا‭ ‬لرجل‭ ‬دين،‭ ‬ولا‭ ‬سياسة‭ ‬وأن‭ ‬أومن‭ ‬بـ‭ ((‬إله‭ ‬الحب‭ ‬والجمال‭ ‬والإنسان‭)). ‬لقد‭ ‬سقط‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬تمثال‭ ‬رجل‭ ‬الدين‭ ‬السياسي،‭ ‬وخطابات‭ ‬السياسيين‭. ‬خطاباتهم‭ ‬إنشائية،‭ ‬وقراراتهم‭ ‬كرمية‭ (‬نرد‭) ‬على‭ ‬ظهورنا،‭ ‬قراراتهم‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬يدهم‭. ‬ياسيد،‭ ‬لا‭ ‬ولاية‭ ‬إلا‭ ‬ولاية‭ ‬الوطن‭ ‬ولا‭ ‬قانون‭ ‬إلا‭ ‬قانون‭ ‬الوطن،‭ ‬وليس‭ ‬لأحد‭ ‬ولاية‭ ‬علينا‭ ‬إلا‭ ‬القيادة‭. ‬فهمنا‭ ‬الدرس،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬ذهبنا‭ ‬ضحايا‭ ‬حماقات‭ ‬الشعارات،‭ ‬الآن‭ ‬كلهم‭ ‬تجمعوا‭ ‬ليقفوا‭ ‬ضد‭ ‬من‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬ضد‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات،‭ ‬ووقفوا‭ ‬ضد‭ ‬بصيص‭ ‬الأمل،‭ ‬لهذا‭ ‬القانون‭ ‬الرحيم‭. ‬

بعد‭ ‬المآسي،‭ ‬الجميع‭ ‬هنا‭ ‬كفر‭ ‬بهم‭ ‬وبشعاراتهم‭. ‬فهمت‭ ‬بعد‭ ‬تجربة‭ ‬السجن،‭ ‬وخروجي‭ ‬عبر‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬ألا‭ ‬أخزن‭ ‬عقلي‭ ‬في‭ ‬ثلاجات‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬السياسيين،‭ ‬ولا‭ ‬رجالات‭ ‬السياسة،‭ ‬فهم‭ ‬يستخدمونها‭ ‬في‭ ‬الباربكيو‭ ‬السياسي‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬توحموا‭ ‬على‭ ‬أكل‭ ‬عقولنا‭ ‬مشوية‭ ‬ويخزنونها‭ ‬ما‭ ‬اقتضت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭. ‬اين‭ ‬أنتم‭ ‬من‭ ‬الأخماس‭ ‬المكدسة؟‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬السيد‭ ‬فضل‭ ‬الله‭ ‬خدم‭ ‬لبنان‭ ‬بالخمس‭ ‬للفقراء‭ ‬ومشاريع‭ ‬مستشفيات‭ ‬للوطن،‭ ‬وهنا‭ ‬لم‭ ‬يبنوا‭ ‬مقصف‭ ‬سندويش‭ ‬وتقام‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬تصفيق‭ ‬في‭ ‬مأتم‭ ‬أو‭ ‬تسريحة‭ ‬شاب‭!!!! ‬هم‭ ‬يعيشون‭ ‬متنعمون‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬مع‭ ‬أبنائهم،‭ ‬ويتاجرون‭ ‬بنا‭ ‬ويرفضون‭ ‬خروجنا‭!!!‬؟؟؟‭. ‬داخل‭ ‬السجن‭ ‬وخارجه،‭ ‬هناك‭ ‬ثقافة‭ ‬آخذة‭ ‬في‭ ‬الانتشار،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ (‬لا‭ ‬لثقافة‭ ‬الموت،‭ ‬نعم‭ ‬لثقافة‭ ‬الحياة‭)‬،‭ (‬لا‭ ‬لرجال‭ ‬الدين‭ ‬والاحزاب،‭ ‬نعم‭ ‬للفكر‭ ‬الحر‭ ‬بلا‭ ‬أذناب‭)‬،‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬بالمناسبة‭ ‬وصلني‭ ‬اتصالان‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬السجن‭ ‬لجنائي‭ ‬وآخر‭ ‬لغير‭ ‬جنائي،‭ ‬وقالا‭ ‬لي‭: ‬وصل‭ ‬صوتنا‭.. ‬شكرا‭ ‬للدولة‭ ‬على‭ ‬التسهيلات،‭ ‬ونتمنى‭ ‬أكثر‭ ‬وأكثر،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الوجبات‭ ‬منظمة،‭ ‬ونعلب‭ ‬رياضة،‭ ‬وتصلنا‭ ‬كتب‭ ‬ومجلات،‭ ‬وصحف،‭ ‬ونستطيع‭ ‬الاتصال‭ ‬هاتفيا‭ ‬بشكل‭ ‬مستمر،‭ ‬ونرفض‭ ‬أولئك‭ ‬من‭ ‬يزايدون‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬ويتاجرون‭ ‬بهذا‭ ‬الملف،‭ ‬ونحن‭ ‬نقدم‭ ‬الشكر‭ ‬الكبير‭ ‬لجلالة‭ ‬الملك‭ ‬على‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة،‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬الجنائيين‭ ‬وغير‭ ‬الجنائيين‭ ‬بحرينيين‭ ‬وأجانب،‭ ‬مصابون‭ ‬بأمراض‭ ‬مستعصية،‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬الإنسانية‭ ‬والرحمة‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬رجال‭ ‬دين‭ ‬أو‭ ‬سياسون‭ ‬ضد‭ ‬قانون‭ ‬يزرع‭ ‬الأمل‭ ‬لمرضى‭ ‬منهم‭ ‬كبار‭ ‬سن‭ ‬وأطفال؟‭ ‬هل‭ ‬الدين‭ ‬يقول‭ ‬ذلك؟‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الرحمة‭ ‬التي‭ ‬صدعوا‭ ‬رؤسنا‭ ‬بها‭ ‬لسنين؟‭ ‬أنا‭ ‬ياسيد،‭ ‬الآن‭ ‬أعد‭ ‬نفسي‭ ‬لاستكمال‭ ‬دراستي،‭ ‬وأصبحت‭ ‬اقرأ‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬لعدة‭ ‬كتاب‭ ‬متنوعين،‭ ‬وروايات‭ ‬عالمية‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭.‬‭ ‬أصلي،‭ ‬أقرأ‭ ‬القرآن‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬وأشعر‭ ‬أني‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬والحياة‭.‬

ختاما‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬الدين‭ ‬باختصار‭ ‬صل،‭ ‬صم،‭ ‬أخلاق‭. ‬أما‭ ‬هذه‭ ‬المبالغات،‭ ‬فهي‭ ‬هوس‭ ‬ووسواس‭. ‬انصح‭ ‬الشباب،‭ ‬اقرأوا‭ ‬كتبا‭ ‬ثقافية‭ ‬متنوعه،‭ ‬كونوا‭ ‬أحرارا‭ ‬في‭ ‬التفكير،‭ ‬لا‭ ‬تصنعوا‭ ‬تماثيل‭ ‬لأي‭ ‬بشر،‭ ‬لا‭ ‬تتعصبوا‭ ‬لأحد‭ ‬ولا‭ ‬لدين،‭ ‬لا‭ ‬تهرولوا‭ ‬وراء‭ ‬أي‭ ‬شعار‭ ‬سياسي‭ ‬قد‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬زهرة‭ ‬عمركم،‭ ‬احذروا‭ ‬من‭ ‬الشعارات‭ ‬والعواطف،‭ ‬عيشوا‭ ‬الحياة،‭ ‬تأنقوا،‭ ‬العبوا‭ ‬رياضة،‭ ‬فكروا‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬تجاري‭ ‬لصالحكم،‭ ‬ولصالح‭ ‬الوطن،‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬الاعتدال،‭ ‬تعصبوا‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الوطن،‭ ‬الحياة‭ ‬جميلة‭ ‬و‭((‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬الحياة‭)).‬