الإنسانية

| فرات البسام

استوقفتني‭ ‬قصة‭ ‬قرأتها‭ ‬لـ‭ ‬“دوبري‭ ‬دوبريف”،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬بلغاري‭ ‬فقير‭ ‬يبلغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬98،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬فقد‭ ‬سمعه‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬دوبري‭ ‬العجوز‭ ‬المسكين‭ ‬والأطرش‭ ‬الفقير‭ ‬كان‭ ‬يوميا‭ ‬يقطع‭ ‬مسافة‭ ‬10‭ ‬كيلومترات‭ ‬مشيا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬من‭ ‬قريته‭ ‬الصغيرة‭ ‬باتجاه‭ ‬العاصمة‭ ‬صوفيا،‭ ‬حيث‭ ‬يجوب‭ ‬الشوارع‭ ‬معظم‭ ‬وقته‭ ‬أو‭ ‬تقريبا‭ ‬كامل‭ ‬يومه‭ ‬يتسول‭ ‬ويجمع‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬المحسنين‭ ‬الذين‭ ‬يشفقون‭ ‬على‭ ‬رجل‭ ‬مسن‭ ‬بعمره‭ ‬ومرضه‭... ‬ولكن؟

الغريب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ذكرت‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العجوز‭ ‬المسكين‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬فقره‭ ‬وحاجته‭ ‬وشقائه‭ ‬اكتشف‭ ‬مؤخرا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتعب‭ ‬ويتسول‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نفسه،‭ ‬إنما‭ ‬ليسدد‭ ‬فواتير‭ ‬الكهرباء‭ ‬والماء‭ ‬لدور‭ ‬الأيتام،‭ ‬حقيقة‭ ‬سألت‭ ‬نفسي‭ ‬كم‭ ‬شخصا‭ ‬يعرف‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬العظيمة،‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬العدد‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬مقابل‭ ‬معرفة‭ ‬تواريخ‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬المطربة‭ ‬الفلانية،‭ ‬وإذا‭ ‬سألنا‭ ‬لماذا،‭ ‬فالجواب‭ ‬ليس‭ ‬مبهما‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬ذكره،‭ ‬لأن‭ ‬الكثير‭ ‬منا‭ ‬أصبح‭ ‬لا‭ ‬يعي‭ ‬ولا‭ ‬يفهم‭ ‬معنى‭ ‬الإنسانية‭ ‬لأنه‭ ‬فقدها‭ ‬ودخل‭ ‬ردهة‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬تمت‭ ‬للإنسان‭ ‬بصفة،‭ ‬فالإنسانية‭ ‬تعني‭ ‬الإحسان‭ ‬والإيثار،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬القدماء‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬عرفوا‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬بأنها‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬ماهيّة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومن‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬أغلبهم‭ ‬الإنسانية‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يضاد‭ ‬الحيوانية‭ ‬بكل‭ ‬الصفات،‭ ‬ومن‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬العامة‭ ‬والفلسفية،‭ ‬الإنسانية‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬مثل‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬مساعدة‭ ‬الناس‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬العنصرية‭ ‬والتعاطف‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬وإنصاف‭ ‬المظلوم‭ ‬وحمل‭ ‬المحبة‭ ‬لكل‭ ‬البشر‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭ ‬في‭ ‬اللون‭ ‬أو‭ ‬العرق‭ ‬أو‭ ‬الدين‭.‬

 

ما‭ ‬يجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬يتميز‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬المخلوقات‭ ‬أنه‭ ‬يحرر‭ ‬عقله‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬التخلف‭ ‬الذاتي‭ ‬وانقلاب‭ ‬النفس‭ ‬وحب‭ ‬الذات،‭ ‬حيث‭ ‬يخيل‭ ‬له‭ ‬أنه‭ ‬أفضل‭ ‬الناس‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬مجتمعه‭ ‬أفضل‭ ‬المجتمعات،‭ ‬هنا‭ ‬ينسى‭ ‬قول‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬“إن‭ ‬أكرمكم‭ ‬عند‭ ‬الله‭ ‬أتقاكم”،‭ ‬والإنسان‭ ‬حتى‭ ‬نعتبره‭ ‬إنسانا‭ ‬حقيقيا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتبع‭ ‬قواعد‭ ‬الإدراك‭ ‬والتفكير،‭ ‬وسنبقى‭ ‬نكتب‭ ‬رغم‭ ‬أننا‭ ‬نعلم‭ ‬بأننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نحارب‭ ‬الرذيلة‭ ‬بذراع‭ ‬هرقل‭.‬