أين المشروع الخليجي لمواجهة التهديدات التركية والإيرانية؟

| عبدالنبي الشعلة

على‭ ‬ضوء‭ ‬التصعيد‭ ‬والتأزم‭ ‬الذي‭ ‬تشهده‭ ‬الآن‭ ‬العلاقات‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬جارتينا‭ ‬تركيا‭ ‬وإيران،‭ ‬وتغول‭ ‬أطماعهما‭ ‬التوسعية‭ ‬في‭ ‬منطقتنا؛‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬أو‭ ‬يكون‭ ‬لدينا‭ ‬مشروع‭ ‬استراتيجي‭ ‬خليجي‭ ‬أو‭ ‬عربي‭ ‬واضح‭ ‬لمواجهة‭ ‬هذا‭ ‬التحدي،‭ ‬والتصدي‭ ‬لأطماع‭ ‬هاتين‭ ‬الدولتين‭ ‬اللتين‭ ‬تحلمان‭ ‬بإستعادة‭ ‬أمجادهما‭ ‬السالفة‭ ‬التي‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬أبعاد‭ ‬وجذور‭ ‬تاريخية‭ ‬غابرة؟‭ ‬فكل‭ ‬واحدة‭ ‬منهما‭ ‬لديها‭ ‬مشروع‭: ‬الأتراك‭ ‬مشروعهم‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬إحياء‭ ‬الخلافة‭ ‬والهيمنة‭ ‬العثمانية،‭ ‬والإيرانيون‭ ‬يسعون‭ ‬إلى‭ ‬استنهاض‭ ‬المشروع‭ ‬الكسروي‭.‬

والمعروف‭ ‬تاريخيًا‭ ‬أن‭ ‬هاتين‭ ‬القوتين‭ ‬الإقليميتين‭ ‬كانتا‭ ‬تتنافسان‭ ‬وتتصارعان‭ ‬على‭ ‬بسط‭ ‬سيطرتهما‭ ‬ونفوذهما‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ثم‭ ‬تحول‭ ‬التناحر‭ ‬بينهما‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التوافق‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الشاهنشاهية‭ - ‬الأتاتوركية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتقلت‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الآن‭ ‬لتقف‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬مشتركة‭ ‬ومرحلة‭ ‬متقدمة‭ ‬من‭ ‬التنسيق‭ ‬والتعاون‭ ‬بينهما،‭ ‬وتوظيف‭ ‬البعد‭ ‬الديني‭ ‬والمذهبي‭ ‬والهوس‭ ‬التاريخي‭ ‬للتمدد‭ ‬وتقاسم‭ ‬السيطرة‭ ‬والنفوذ‭ ‬على‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأصبح‭ ‬لديهما‭ ‬مصالح‭ ‬متقاطعة‭ ‬وهدف‭ ‬أساسي‭ ‬وهو،‭ ‬لا‭ ‬سمح‭ ‬الله،‭ ‬تدمير‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬الشقيقة؛‭ ‬القلب‭ ‬النابض‭ ‬للمنظومة‭ ‬الخليجية‭ ‬والعربية،‭ ‬وذلك‭ ‬ضمن‭ ‬سعيهما‭ ‬القديم‭ ‬المتجدد‭ ‬لنقل‭ ‬أو‭ ‬استقطاب‭ ‬“الثقل‭ ‬الإسلامي”‭ ‬إلى‭ ‬أراضيهما‭ ‬واختطافه‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬شرفها‭ ‬الله‭ ‬واختارها‭ ‬لهذا‭ ‬الدور؛‭ ‬فبعث‭ ‬فيها‭ ‬نبيه‭ ‬وأنزل‭ ‬رسالته‭ ‬فوق‭ ‬ترابها‭. ‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬تقاسم‭ ‬الأدوار‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬بالذات،‭ ‬يتجلى‭ ‬التنسيق‭ ‬والتعاون‭ ‬العسكري‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬العراق؛‭ ‬حيث‭ ‬تتوغل‭ ‬القوات‭ ‬التركية‭ ‬داخل‭ ‬الأراضي‭ ‬العراقية،‭ ‬وتواصل‭ ‬غاراتها‭ ‬الجوية‭ ‬على‭ ‬القرى‭ ‬والبلدات‭ ‬العراقية‭ ‬المتاخمة‭ ‬لحدودها،‭ ‬في‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬قصف‭ ‬مدفعي‭ ‬مكثف‭ ‬لقوات‭ ‬الحرس‭ ‬الثوري‭ ‬الإيراني‭ ‬على‭ ‬المناطق‭ ‬العراقية‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬الإيرانية،‭ ‬في‭ ‬انتهاك‭ ‬صارخ‭ ‬من‭ ‬الطرفين‭ ‬للسيادة‭ ‬العراقية‭.‬

لقد‭ ‬بدأت‭ ‬بوادر‭ ‬ومؤشرات‭ ‬هذا‭ ‬التعاون‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬الواضح‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2017،‭ ‬ففي‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬أعلن‭ ‬الرئيس‭ ‬التركي‭ ‬رجب‭ ‬طيب‭ ‬أردوغان‭ ‬عن‭ ‬إمكانية‭ ‬تنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬عسكرية‭ ‬مشتركة‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬وصفها‭ ‬بالمنظمات‭ ‬الإرهابية‭ ‬في‭ ‬البلدين،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬ذلك‭ ‬التصريح‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬الزيارة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬أنقرة‭ ‬رئيس‭ ‬الأركان‭ ‬الإيراني‭ ‬اللواء‭ ‬محمد‭ ‬باقري‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬وفد‭ ‬عسكري‭ ‬عالي‭ ‬المستوى‭ ‬مكون‭ ‬من‭ ‬تسعة‭ ‬أشخاص‭ ‬ضم‭ ‬كبار‭ ‬الخبراء‭ ‬وضباط‭ ‬المخابرات‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬الإيراني،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬بعد‭ ‬انقطاع‭ ‬دام‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬28‭ ‬سنة‭.‬

هذا‭ ‬التعاون‭ ‬والتنسيق‭ ‬تم‭ ‬تحقيقه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬وشدة‭ ‬الخلافات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قائمة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬ومسائل‭ ‬جوهرية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهما‭ ‬على‭ ‬الساحتين‭ ‬العراقية‭ ‬والسورية؛‭ ‬وبشكل‭ ‬خاص‭ ‬موقف‭ ‬البلدين‭ ‬المتناقض‭ ‬تجاه‭ ‬المليشيات‭ ‬الشيعية‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ومليشيات‭ ‬الحشد‭ ‬الشعبي‭ ‬العراقي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬تقارب‭ ‬في‭ ‬المصالح‭ ‬مما‭ ‬يقتضي‭ ‬تناسي‭ ‬وتجاوز‭ ‬الخلافات‭ ‬والقفز‭ ‬فوقها‭ ‬والتقيد‭ ‬بقواعد‭ ‬اللعبة‭. ‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬التعاون‭ ‬بدأ‭ ‬يأخذ‭ ‬أبعادًا‭ ‬مختلفة‭ ‬عندما‭ ‬انفتحت‭ ‬الشهية‭ ‬التركية‭ ‬على‭ ‬المصادر‭ ‬النفطية‭ ‬الخليجية‭ ‬وحقول‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬حوض‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬قبالة‭ ‬سواحل‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان‭ ‬وإسرائيل‭ ‬وغزة‭ ‬وقبرص،‭ ‬والتي‭ ‬تقدر‭ ‬كميتها‭ ‬بما‭ ‬يقارب‭ ‬122‭ ‬تريليون‭ ‬متر‭ ‬مكعب‭ ‬من‭ ‬الغاز،‭ ‬و107‭ ‬مليارات‭ ‬برميل‭ ‬من‭ ‬النفط،‭ ‬تركيا‭ ‬التي‭ ‬تستورد‭ ‬90‭% ‬من‭ ‬احتياجاتها‭ ‬من‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬تريد‭ ‬حصة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الثروة‭ ‬رغم‭ ‬انها‭ ‬تقع‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬شواطئها‭ ‬ولا‭ ‬تدخل‭ ‬ضمن‭ ‬حدودها‭ ‬البحرية؛‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬ليبيا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأردوغان‭.‬

إن‭ ‬مجالات‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬تركيا‭ ‬وإيران‭ ‬بدأت‭ ‬الآن‭ ‬تثير‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬والمخاوف‭ ‬وتتسم‭ ‬بالخطورة‭ ‬المفرطة‭ ‬وتستدعي‭ ‬التصدي‭ ‬الحازم‭ ‬لها؛‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬تتجه‭ ‬نحو‭ ‬التعاون‭ ‬والتنسيق‭ ‬العسكري‭ ‬وتوحيد‭ ‬الجهود‭ ‬وتبادل‭ ‬المنافع‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬وليبيا‭ ‬ضمن‭ ‬صيغة‭ ‬أو‭ ‬صفقة‭ ‬من‭ ‬المحاصصة‭ ‬والمقايضة‭ ‬واقتسام‭ ‬الغنائم‭.‬

وبهذا‭ ‬الصدد‭ ‬فقد‭ ‬صرح‭ ‬مؤخرًا‭ ‬جواد‭ ‬ظريف‭ ‬وزير‭ ‬خارجية‭ ‬إيران‭ ‬قائلًا‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭: ‬“لدينا‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬متقاربة‭ ‬ومشتركة‭ ‬مع‭ ‬تركيا،‭ ‬وتبادلنا‭ ‬الرؤى‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأزمة‭ ‬فى‭ ‬اليمن‭ ‬ومعاناة‭ ‬الشعب‭ ‬اليمنى،‭ ‬ونحن‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬تتحسن‭ ‬الأوضاع‭ ‬فى‭ ‬ليبيا‭ ‬واليمن،‭ ‬ولدينا‭ ‬رؤى‭ ‬مشتركة‭ ‬مع‭ ‬تركيا،‭ ‬ونحن‭ ‬ندعم‭ ‬الحكومة‭ ‬الشرعية‭ ‬فى‭ ‬ليبيا‭ (‬يقصد‭ ‬حكومة‭ ‬السراج‭) ‬ونعتقد‭ ‬أنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إنهاء‭ ‬الأزمة،‭ ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬أننا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتعاون‭ ‬فى‭ ‬رؤيتنا‭ ‬المشتركة‭ ‬فى‭ ‬اليمن‭ ‬وفى‭ ‬ليبيا‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‮»‬‭.‬

وكما‭ ‬ذكرنا‭ ‬فإن‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬وإيران‭ ‬مشروعا‭ ‬خاصا‭ ‬بها؛‭ ‬واضحا‭ ‬ومكشوفا‭ ‬وممنهجا،‭ ‬ويرتكز‭ ‬على‭ ‬معطيات‭ ‬وفرضيات‭ ‬تاريخية‭ ‬وعاطفية‭ ‬وايديولوجية،‭ ‬ويستهدف‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬وقد‭ ‬نجحتا‭ ‬في‭ ‬المضي‭ ‬قدمًا‭ ‬في‭ ‬تنفيذهما‭ ‬كل‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬بحيث‭ ‬أصبحت‭ ‬طهران‭ ‬تتفاخر‭ ‬بأنها‭ ‬متواجدة‭ ‬وتسيطر‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬عواصم‭ ‬عربية،‭ ‬وتدير‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬المليشيات‭ ‬والحشود‭ ‬المسلحةً‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬دولنا‭ ‬العربية،‭ ‬وأصبح‭ ‬لتركيا‭ ‬تغلغل‭ ‬وقواعد‭ ‬عسكرية‭ ‬على‭ ‬التراب‭ ‬العربي،‭ ‬وأذرع‭ ‬حزبية‭ ‬بأجندات‭ ‬إرهابية‭ ‬متطرفة‭ ‬تعمل‭ ‬لحسابها،‭ ‬وصارت‭ ‬أنقرة‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬مصير‭ ‬ليبيا،‭ ‬والدولتين‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬مشاريعهما‭ ‬لا‭ ‬تترددان‭ ‬عن‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الداخلية‭ ‬للدول‭ ‬العربية،‭ ‬وتستثمران‭ ‬الخلافات‭ ‬الخليجية‭ ‬والعربية،‭ ‬وتدعمان‭ ‬التيارات‭ ‬الثيوقراطية‭ ‬والحركات‭ ‬الإرهابية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬وتحاربان‭ ‬الأفكار‭ ‬والتوجهات‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬العربية،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الممارسات‭ ‬العدوانية‭ ‬التي‭ ‬تتنافى‭ ‬مع‭ ‬القوانين‭ ‬والأعراف‭ ‬الدولية‭ ‬ومبادئ‭ ‬حسن‭ ‬الجوار،‭ ‬وحيال‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬مطروحًا‭ ‬بكل‭ ‬قوة‭ ‬وإلحاح؛‭ ‬أين‭ ‬المشروع‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬الخليجي‭ ‬أو‭ ‬العربي‭ ‬المعد‭ ‬لمواجهة‭ ‬تهديدات‭ ‬واعتداءات‭ ‬وأطماع‭ ‬هاتين‭ ‬الدولتين؟