الصراع على التاريخ

| رضي السماك

لعل‭ ‬الظاهرة‭ ‬الأكثر‭ ‬حرجاً‭ ‬للإدارة‭ ‬الأميركية‭ ‬والدول‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬إثر‭ ‬مقتل‭ ‬المواطن‭ ‬ذي‭ ‬الأصل‭ ‬الأفريقي‭ ‬جورج‭ ‬فلويد‭ ‬تحت‭ ‬ركبة‭ ‬شرطي‭ ‬أبيض‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬تحطيم‭ ‬تماثيل‭ ‬الرموز‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وتلك‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬السواء؛‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬أحسبها‭ ‬نادرة‭ ‬الحدوث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث؛‭ ‬لما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬ضمنية‭ ‬شتى،‭ ‬ثقافياً‭ ‬وحضارياً‭ ‬وآيديولوجياً،‭ ‬حيث‭ ‬تُفجّر‭ ‬بموازاتها‭ ‬صراعاً‭ ‬سياسياً‭ ‬فكرياً‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬حق‭ ‬تدوين‭ ‬وقراءة‭ ‬أحداث‭ ‬التاريخ‭ ‬المهمة‭ ‬بأدنى‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الموضوعية‭.‬

فعلى‭ ‬عكس‭ ‬المخربين‭ ‬كان‭ ‬واضحاً‭ ‬أن‭ ‬محطمي‭ ‬التماثيل‭ ‬ليسوا‭ ‬رعاعاً‭ ‬ولم‭ ‬يحطموها‭ ‬اعتباطاً؛‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬مطلعين‭ ‬جيداً‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬بلدانهم،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬إدانة‭ ‬الأعمال‭ ‬التخريبية‭ ‬باعتبارها‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬وغير‭ ‬مشروعة،‭ ‬فإن‭ ‬تحطيم‭ ‬التماثيل‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬أصنام‭ ‬مقدسة‭ ‬لدى‭ ‬النخب‭ ‬الحاكمة‭ ‬الغربية‭ ‬ونخب‭ ‬شعبية‭ ‬وعوام‭ ‬الناس‭ ‬المتأثرين‭ ‬بالثقافة‭ ‬السائدة،‭ ‬خط‭ ‬أحمر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزه،‭ ‬ونكتفي‭ ‬هنا‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬تماثيل‭ ‬مهمة‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالعبودية‭ ‬أو‭ ‬الاسترقاق‭ ‬الاستعماري‭: ‬الأول‭ ‬تمثال‭ ‬ألبرت‭ ‬بايك،‭ ‬وهو‭ ‬التمثال‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬العاصمة،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬حرقه‭ ‬لاتهام‭ ‬صاحبه‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬مؤسسي‭ ‬“كلوكس‭ ‬كلان”‭ ‬العنصرية،‭ ‬والثاني‭ ‬تمثال‭ ‬تاجر‭ ‬الرقيق‭ ‬إدوارد‭ ‬كولستون‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بريستول‭ ‬البريطانية،‭ ‬والثالث‭ ‬للرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬الكاريزما‭ ‬شارل‭ ‬ديجول‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬“الأنوار”‭ ‬باريس،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬تشويهه‭ ‬بالطلاء‭ ‬بتهمة‭ ‬كونه‭ ‬تاجر‭ ‬رقيق،‭ ‬ولمسؤوليته‭ ‬أيضاً‭ ‬عن‭ ‬جرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭ ‬ارتكبت‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬بالبلدان‭ ‬التي‭ ‬استعمرتها‭ ‬بلاده،‭ ‬لاسيما‭ ‬الجزائر‭.‬

ولاريب‭ ‬ان‭ ‬الصراع‭ ‬سيستمر‭ ‬طويلاً‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لحقائق‭ ‬التاريخ‭ ‬بمنهج‭ ‬علمي‭ ‬رصين‭ ‬يتوخى‭ ‬أدنى‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الموضوعية‭ ‬يتولاها‭ ‬أساتذة‭ ‬تاريخ‭ ‬محايدون‭ ‬ضمن‭ ‬أعضاء‭ ‬لجنة‭ ‬مُشكلة‭ ‬للإنصاف‭ ‬والحقيقة‭ ‬والعدالة‭ ‬بغية‭ ‬إنهاء‭ ‬الأزمة‭ ‬العنصرية‭ ‬المديدة‭.‬