بين الثقافة والإبداع

| د. ندى أحمد الحساوي

في‭ ‬خضم‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحالي‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬إنساني‭ ‬مبدع‭ ‬للمعلومات،‭ ‬لابد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نميّز‭ ‬بذهن‭ ‬متيقظ‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬نسعى‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بدافع‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬لقب‭ ‬“مثقّفين”،‭ ‬وأن‭ ‬نسعى‭ ‬إلى‭ ‬الإدراك‭ ‬العميق‭ ‬لما‭ ‬يهمّنا‭ ‬ذاتيا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المعلومات‭ ‬فنكون‭ ‬“مبدعين”‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬المبدعين‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬أدركوا‭ ‬ما‭ ‬يمت‭ ‬بفكر‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬إبداعهم،‭ ‬ولم‭ ‬يتشتتوا‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭. ‬

والإنسان‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬عندما‭ ‬يسعى‭ ‬للمعرفة‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬متعددة‭ ‬فهو‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭ ‬دمار‭ ‬له‭ ‬وليس‭ ‬بناء،‭ ‬لأنه‭ ‬يفقد‭ ‬التركيز‭ ‬في‭ ‬القيمة‭ ‬العليا‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بوصلته‭ ‬الربانية،‭ ‬فالقيمة‭ ‬العليا‭ ‬الذاتية‭ ‬رسالة‭ ‬ضمنية‭ ‬معلوماتية‭ ‬تشكل‭ ‬الطاقة‭ ‬الداخلية‭ ‬المحركة‭ ‬لأجسادنا،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬ممارستها‭ ‬بتناوب‭ ‬التحدي‭ ‬والإنجاز‭ ‬يشعرنا‭ ‬بالحب‭ ‬الحقيقي‭ ‬المتوازن،‭ ‬وكلما‭ ‬أدركنا‭ ‬قيمتنا‭ ‬العليا‭ ‬بالتركيز‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بها‭ ‬ومارسناها‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الهدف،‭ ‬فإننا‭ ‬بذلك‭ ‬نرتقي‭ ‬بوعينا‭ ‬الكوني،‭ ‬ونفعّل‭ ‬توازننا‭ ‬الفسيولوجي‭ ‬لتفعيل‭ ‬أداء‭ ‬أعضاء‭ ‬أجسامنا‭. ‬فبهذا‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬حققنا‭ ‬معادلة‭ ‬الحياة‭ ‬المعنيّة‭ ‬بالحب‭ ‬الواعي‭.‬

أيضا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬حلقة‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬الجسد‭ ‬والروح،‭ ‬أي‭ ‬الوعي‭ ‬الجسدي‭ ‬والوعي‭ ‬الروحي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الأصل،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬توجيه‭ ‬لجام‭ ‬العقل‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬إدراك‭ ‬القيمة‭ ‬العليا‭ ‬يلهم‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬العطاء‭ ‬للإنسانية،‭ ‬وكذلك‭ ‬يفعّل‭ ‬الصحة‭ ‬التكاملية‭ ‬النفسية‭ ‬والجسدية،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬لجام‭ ‬العقل‭ ‬للتخبّط‭ ‬بين‭ ‬أشكال‭ ‬الإدمان‭ ‬المتنوّعة‭ ‬على‭ ‬الملذات‭ ‬وقيم‭ ‬الآخرين‭ ‬وثقافتهم،‭ ‬فهو‭ ‬استنزاف‭ ‬لطاقاتنا،‭ ‬لأنها‭ ‬عقيمة‭ ‬تفتقر‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬الجديد‭ ‬والإبداع‭. ‬إنّ‭ ‬ذلك‭ ‬التباهي‭ ‬بالمعلومات‭ ‬المختزنة‭ ‬تحت‭ ‬مسمّى‭ ‬“مثقف”‭ ‬يجلب‭ ‬الأمراض‭ ‬لأن‭ ‬في‭ ‬تحصيل‭ ‬المعلومات‭ ‬المشتتة‭ ‬تشتيت‭ ‬للأفكار‭ ‬المفعّلة‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭ ‬بتشتت‭ ‬المسارات‭ ‬العصبية،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬يبدأ‭ ‬الاتساق‭ ‬مع‭ ‬الانبعاث‭ ‬الكوني‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التسليم‭ ‬للقيمة‭ ‬العليا‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬مكمنها‭ ‬القلب‭ ‬والذي‭ ‬بدوره‭ ‬يتسق‭ ‬مع‭ ‬الفص‭ ‬الأمامي‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬لالتقاط‭ ‬أفكار‭ ‬نتخيلها‭ ‬ونحيى‭ ‬بها‭ ‬فتحيى‭ ‬بنا‭ ‬وتخلّد،‭ ‬بذلك‭ ‬يكون‭ ‬إدراك‭ ‬العقل‭ ‬بتلك‭ ‬القيمة‭ ‬الكونية،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬التشتت‭ ‬والبرمجة،‭ ‬وبهذا‭ ‬نصبح‭ ‬“مبدعين”‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬“مثقفين”‭ ‬غير‭ ‬منتجين،‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬الذات‭.‬