منظمة العمل العربية وقصة بيت القذافي

| عبدالنبي الشعلة

من‭ ‬بين‭ ‬أوراقي‭ ‬المبعثرة‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬في‭ ‬شهر‭ ‬مارس‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬2002‭ ‬ترأستُ‭ ‬وفد‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬المشارك‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬الدورة‭ ‬29‭ ‬لمؤتمر‭ ‬العمل‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬عقد‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية‭ ‬بالقاهرة‭.‬

وتتولى‭ ‬منظمة‭ ‬العمل‭ ‬العربية‭ ‬تنظيم‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬ويحضره‭ ‬وزراء‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬ومشاركون‭ ‬يمثلون‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬والعمال‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الدول،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬وفود‭ ‬تمثل‭ ‬منظمات‭ ‬نقابية‭ ‬عربية‭ ‬ومراقبون،‭ ‬وقد‭ ‬انضمت‭ ‬البحرين‭ ‬إلى‭ ‬عضوية‭ ‬هذه‭ ‬المنظمة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1977‭.‬

وكان‭ ‬جدول‭ ‬أعمال‭ ‬تلك‭ ‬الدورة‭ ‬كسابقاتها‭ ‬يتضمن‭ ‬بنودا‭ ‬رئيسية‭ ‬ثابتة‭ ‬ومتكررة،‭ ‬وقرارات‭ ‬وتوصيات‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬رُحلت‭ ‬وأحيلت‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الدورة‭ ‬من‭ ‬سابقاتها‭ ‬والتي‭ ‬يتم‭ ‬ترحيلها‭ ‬أو‭ ‬بعض‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الدورات‭ ‬اللاحقة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مناقشة‭ ‬المسائل‭ ‬المالية‭ ‬والإدارية‭ ‬وميزانية‭ ‬المنظمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشتكي‭ ‬دائمًا‭ ‬من‭ ‬عجز‭ ‬مالي‭ ‬ينتج‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬عن‭ ‬تخلف‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬أو‭ ‬الجمهوريات‭ ‬العربية‭ ‬التقدمية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬عن‭ ‬تسديد‭ ‬اشتراكاتها‭ ‬والتزاماتها‭ ‬المالية‭ ‬للمنظمة،‭ ‬وتقوم‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية‭ ‬الرجعية‭ ‬بتغطية‭ ‬العجز‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬مشاركتي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدورة‭ ‬آخر‭ ‬مشاركة‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬دورات‭ ‬مؤتمر‭ ‬العمل‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬إنني‭ ‬بنهاية‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬نُقلت‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬العمل‭ ‬والشؤون‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وأسندت‭ ‬إليّ‭ ‬مهمة‭ ‬وزارية‭ ‬أخرى‭.‬

واختتمت‭ ‬تلك‭ ‬الدورة‭ ‬أعمالها‭ ‬بالبيان‭ ‬الختامي‭ ‬المعتاد‭ ‬في‭ ‬ظهيرة‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مارس،‭ ‬تبعه‭ ‬مأدبة‭ ‬غذاء‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قاعات‭ ‬فندق‭ ‬هيلتون‭ ‬النيل‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تسكنه‭ ‬معظم‭ ‬الوفود‭ ‬المشاركة،‭ ‬وعلى‭ ‬الطاولة‭ ‬الرئيسة‭ ‬المخصصة‭ ‬للوزراء‭ ‬ورؤساء‭ ‬الوفود‭ ‬كان‭ ‬النجم‭ ‬اللامع‭ ‬هو‭ ‬وزير‭ ‬العمل‭ ‬الليبي،‭ ‬وكان‭ ‬العقيد‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭ ‬قد‭ ‬ألغى‭ ‬تسمية‭ ‬“وزير”‭ ‬واستبدلها‭ ‬بكلمة‭ ‬“أمين”‭ ‬وغير‭ ‬اسم‭ ‬الوزارات‭ ‬إلى‭ ‬“لجان‭ ‬شعبية‭ ‬عامة”‭ ‬كما‭ ‬غيَّر‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فأصبح‭ ‬زميلنا‭ ‬الليبي‭ ‬يحمل‭ ‬مسمى‭ (‬أمين‭ ‬اللجنة‭ ‬الشعبية‭ ‬العامة‭ ‬للقوى‭ ‬العاملة‭ ‬والتدريب‭ ‬والتشغيل‭ ‬بالجماهيرية‭ ‬العربية‭ ‬الليبية‭ ‬الشعبية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬العظمى‭).‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كان‭ ‬المدير‭ ‬العام‭ ‬لمنظمة‭ ‬العمل‭ ‬العربية‭ ‬الصديق‭ ‬العزيز‭ ‬الدكتور‭ ‬إبراهيم‭ ‬قويدر،‭ ‬وهو‭ ‬ليبي‭ ‬كان‭ ‬يتقلد‭ ‬منصبًا‭ ‬قياديًا‭ ‬رفيعًا‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬قبل‭ ‬تعيينه‭ ‬مديرًا‭ ‬للمنظمة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الحلقة‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬مركز‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬فإنه‭ ‬عندما‭ ‬انتهت‭ ‬ولاية‭ ‬المدير‭ ‬العام‭ ‬السابق‭ ‬للمنظمة‭ ‬العراقي‭ ‬بكر‭ ‬محمود‭ ‬رسول‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2000‭ ‬رشحت‭ ‬البحرين‭ ‬لهذا‭ ‬المنصب‭ ‬الأخ‭ ‬عبدالله‭ ‬راشد‭ ‬بوحجي‭ ‬المدني،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وكيل‭ ‬وزارة‭ ‬العمل‭ ‬حتى‭ ‬العام‭ ‬1995‭ ‬كأول‭ ‬خليجي‭ ‬يترشح‭ ‬لهذا‭ ‬المنصب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنًا‭ ‬أو‭ ‬مقبولًا‭ ‬وقتها،‭ ‬فلم‭ ‬يحالفه‭ ‬الحظ‭ ‬فانتخب‭ ‬الدكتور‭ ‬إبراهيم‭ ‬قويدر،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬إن‭ ‬المدير‭ ‬العام‭ ‬الحالي‭ ‬للمنظمة‭ ‬هو‭ ‬السيد‭ ‬فايز‭ ‬علي‭ ‬المطيري،‭ ‬كويتي‭ ‬الجنسية،‭ ‬وقد‭ ‬تولى‭ ‬المنصب‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2015‭ ‬وتنتهي‭ ‬ولايته‭ ‬في‭ ‬2023‭.‬

نعود‭ ‬إلى‭ ‬طاولة‭ ‬الغداء‭ ‬الرئيسية‭ ‬وإلى‭ ‬زميلنا‭ ‬الوزير‭ ‬أو‭ ‬الأمين‭ ‬الليبي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الحديث‭ ‬بصوت‭ ‬عال،‭ ‬وبحماس‭ ‬شديد‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬الانفعال‭ ‬عما‭ ‬حققته‭ ‬ليبيا‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬القذافي‭ ‬قيادتها‭ ‬في‭ ‬الفاتح‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬1969؛‭ ‬ومنها‭ ‬“النهر‭ ‬العظيم”،‭ ‬الذي‭ ‬سيحول‭ ‬الجماهيرية‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬صحارى‭ ‬جرداء‭ ‬إلى‭ ‬واحات‭ ‬خضراء،‭ ‬وأكد‭ ‬الأمين‭ ‬أن‭ ‬القذافي‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬أي‭ ‬وظيفة‭ ‬أو‭ ‬منصب‭ ‬رسمي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬منصبه‭ ‬كرئيس‭ ‬للدولة‭ ‬أو‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬قيادة‭ ‬الثورة،‭ ‬وأصبح‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1977‭ ‬مجرد‭ ‬رمز‭ ‬لا‭ ‬يحكم‭ ‬وإنما‭ ‬يقود‭ ‬ويتزعم،‭ ‬ويحمل‭ ‬لقب‭ ‬“الأخ‭ ‬قائد‭ ‬الثورة”‭ ‬الذي‭ ‬أرسى‭ ‬نظامًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬مبتكرًا‭ ‬مبنيا‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬للحكم‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬الشعب‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬“الديمقراطية‭ ‬المباشرة”‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المؤتمرات‭ ‬الشعبية‭ ‬كسلطة‭ ‬تشريعية‭ ‬واللجان‭ ‬الشعبية‭ ‬كسلطة‭ ‬تنفيذية،‭ ‬وقد‭ ‬أصبح‭ ‬القذافي‭ ‬أيضًا‭ ‬فيلسوفا‭ ‬ومفكرًا‭ ‬وقائدًا‭ ‬أمميًا،‭ ‬وألف‭ ‬كتابه‭ ‬الأخضر‭ ‬الذي‭ ‬تضمن‭ ‬“النظرية‭ ‬العالمية‭ ‬الثالثة”‭ ‬التي‭ ‬توفر‭ ‬حلًا‭ ‬لكل‭ ‬المشاكل‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬العالم‭ ‬وتبرز‭ ‬كبديل‭ ‬أفضل‭ ‬للرأسمالية‭ ‬والماركسية،‭ ‬وقد‭ ‬تكرم‭ ‬الأمين‭ ‬بتوزيع‭ ‬نسخ‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الأخضر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الوزراء‭ ‬ورؤساء‭ ‬الوفود‭.‬

وذكر‭ ‬الأمين‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬حديثه‭ ‬أنه‭ ‬كُلف‭ ‬مؤخرًا‭ ‬لإيجاد‭ ‬مخرج‭ ‬أو‭ ‬حل‭ ‬لمعضلة‭ ‬إنسانية‭ ‬وإدارية‭ (‬شائكة‭ ‬ومعقدة‭) ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬العقيد،‭ ‬كما‭ ‬يعرف‭ ‬الجميع،‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬بيتًا‭ ‬خاصًا‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬لذلك‭ ‬غير‭ ‬مستقر‭ ‬ويتنقل‭ ‬للسكن‭ ‬بين‭ ‬الخيم‭ ‬والمعسكرات،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يرغب‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬بيت‭ ‬يسكنه‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬أي‭ ‬مواطن‭ ‬ليبي‭ ‬عادي،‭ ‬وحيث‭ ‬إنه‭ ‬قد‭ ‬ألغى‭ ‬أسواق‭ ‬بيع‭ ‬وشراء‭ ‬العقارات‭ ‬الخاصة‭ ‬ورسخ‭ ‬نظاما‭ ‬أسماه‭ ‬“البيت‭ ‬لساكنه‭ ‬والعقار‭ ‬لشاغله”‭ ‬فأصبحت‭ ‬الدولة‭ ‬هي‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬السكن‭ ‬لمواطنيها‭ ‬شريطة‭ ‬استيفاء‭ ‬بعض‭ ‬الشروط‭ ‬المحددة،‭ ‬فتقدم‭ ‬القذافي‭ ‬باستمارة‭ ‬طلب‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬سكن،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الطلب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مكتملًا‭ ‬ومستوفيًا‭ ‬كل‭ ‬الشروط‭ ‬وكان‭ ‬ينقصه‭ ‬الجواب‭ ‬على‭ ‬سؤالين؛‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬الوظيفة‭ ‬التي‭ ‬يشغلها‭ ‬طالب‭ ‬السكن‭ ‬ومرتبه‭ ‬الشهري؛‭ ‬لأن‭ ‬القذافي‭ ‬ليست‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭ ‬معينة‭ ‬ثابتة‭ ‬ومسجلة‭ ‬في‭ ‬سجلات‭ ‬الخدمة‭ ‬المدنية‭ ‬أو‭ ‬العسكرية‭ ‬ولا‭ ‬يتقاضى‭ ‬أي‭ ‬مرتب،‭ ‬فلم‭ ‬تستطع‭ ‬اللجنة‭ ‬المكلفة‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬الطلب‭ ‬ورفضته،‭ ‬والعقيد‭ ‬من‭ ‬جهته‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أي‭ ‬استثناء‭ ‬أو‭ ‬تجاوز‭ ‬القانون‭! ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الزميل‭ ‬الأمين‭ ‬جادًا‭ ‬وأمينًا‭ ‬في‭ ‬طرحه‭!‬

وبعد‭ ‬تبادل‭ ‬النظرات‭ ‬والابتسامات‭ ‬والغمزات‭ ‬واللمزات‭ ‬بين‭ ‬الحضور‭ ‬انتهت‭ ‬مأدبة‭ ‬الغداء‭ ‬بالدعاء‭ ‬وبأصدق‭ ‬التمنيات‭ ‬للزميل‭ ‬الأمين‭ ‬بالسداد‭ ‬والتوفيق‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬حل‭ ‬لتلك‭ ‬المعضلة‭ ‬الإنسانية‭ ‬المعقدة‭! ‬وتوجهت‭ ‬والوفد‭ ‬المرافق‭ ‬إلى‭ ‬مطار‭ ‬القاهرة‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬حضن‭ ‬الوطن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬مررت‭ ‬بإحدى‭ ‬حلقات‭ ‬العمل‭ ‬العربي‭ ‬المشترك‭ ‬الذي‭ ‬يفتقد‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬قواعد‭ ‬المصداقية‭ ‬والإخلاص‭ ‬والجدية‭.‬

وكانت‭ ‬تجربتي‭ ‬الأولى‭ ‬عندما‭ ‬شاركت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدورات؛‭ ‬وهي‭ ‬الدورة‭ ‬23‭ ‬التي‭ ‬عقدت‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬أيضًا،‭ ‬وفي‭ ‬مقر‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬مارس‭ ‬1996،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬يوم‭ ‬الأحد‭ ‬24‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الشهر‭ ‬يوم‭ ‬غمرني‭ ‬فيه‭ ‬الإحساس‭ ‬بالزهو‭ ‬والفخر؛‭ ‬لأنني‭ ‬سأدخل‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬مبنى‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬بيت‭ ‬العرب،‭ ‬وجامع‭ ‬شملهم‭ ‬ورمز‭ ‬وحدتهم‭ ‬وتآلفهم،‭ ‬وسألتقي‭ ‬بأمينها‭ ‬العام‭ ‬وقتها‭ ‬السيد‭ ‬عصمت‭ ‬عبدالمجيد‭ ‬ضمن‭ ‬تقليد‭ ‬متبع‭ ‬وهو‭ ‬قيام‭ ‬مدير‭ ‬عام‭ ‬المنظمة‭ ‬بمرافقة‭ ‬أي‭ ‬وزير‭ ‬جديد‭ ‬لتعريفه‭ ‬بالأمين‭ ‬العام‭. ‬

وبعد‭ ‬اللقاء،‭ ‬وقبل‭ ‬بدء‭ ‬الاجتماعات،‭ ‬وفي‭ ‬ردهة‭ ‬الجامعة‭ ‬أقبل‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الجدية‭ ‬والانضباط،‭ ‬ينطبق‭ ‬عليه‭ ‬صفة‭ ‬“طويل‭ ‬القامة‭ ‬واسع‭ ‬الصدر‭ ‬عريض‭ ‬المنكبين”،‭ ‬وعرف‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للاتحاد‭ ‬الدولي‭ ‬لنقابات‭ ‬العمال‭ ‬العرب،‭ ‬الذي‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬دمشق‭ ‬مقرًا‭ ‬له،‭ ‬وأوجز‭ ‬إليّ‭ ‬مهام‭ ‬الاتحاد‭ ‬أو‭ ‬“رسالته”‭ ‬كما‭ ‬وصفها،‭ ‬وذكرني‭ ‬بأن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أهداف‭ ‬منظمة‭ ‬العمل‭ ‬العربية‭ ‬“تنمية‭ ‬وصيانة‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬النقابية”‭ ‬و”تيسير‭ ‬تنقل‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬العربية‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬ومساواتها‭ ‬بالعمال‭ ‬الوطنيين‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬إحلالها‭ ‬محل‭ ‬الأيدي‭ ‬العاملة‭ ‬الأجنبية”،‭ ‬وأعطاني‭ ‬نسخا‭ ‬من‭ ‬دستور‭ ‬الاتحاد‭ ‬ودستور‭ ‬المنظمة‭ ‬و”الميثاق‭ ‬العربي‭ ‬للعمل”‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1965‭ ‬والذي‭ ‬أُنشئت‭ ‬على‭ ‬أساسه‭ ‬المنظمة‭ ‬وأُصدر‭ ‬دستورها‭.‬

بدأت‭ ‬بقراءة‭ ‬الميثاق‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬ديباجته‭: ‬“‭... ‬وإيمانًا‭ ‬بأن‭ ‬العرب‭ ‬سيستعيدون‭ ‬أراضيهم‭ ‬المقدسة‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬المغتصبة‭ ‬وسيحررون‭ ‬كل‭ ‬أجزاء‭ ‬وطنهم‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬الاستعمار،‭ ‬واعتزازًا‭ ‬بما‭ ‬حققه‭ ‬مؤتمر‭ ‬القمة‭ ‬لملوك‭ ‬العرب‭ ‬ورؤسائهم‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬الهدف‭ ‬ووحدة‭ ‬الصف‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الأمة‭ ‬العربية،‭ ‬وإيمانًا‭ ‬بأن‭ ‬تكاتف‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬يمثل‭ ‬إحدى‭ ‬الدعامات‭ ‬الأساسية‭ ‬للوحدة‭ ‬العربية،‭ ‬وإيمانًا‭ ‬بما‭ ‬حققه‭ ‬التعاون‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬ضمان‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬كريمة‭ ‬أساسها‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭...‬”

وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحشو‭ ‬الذي‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬المصداقية‭ ‬والواقعية‭ ‬والجدية،‭ ‬والتمنيات‭ ‬التي‭ ‬ندرك‭ ‬استحالة‭ ‬تحقيقها،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬67‭ ‬وغزو‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1990،‭ ‬فلم‭ ‬أكمل‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬قراءة‭ ‬“الميثاق‭ ‬العربي‭ ‬للعمل”‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬دستوري‭ ‬المنظمة‭ ‬والاتحاد،‭ ‬وظلت‭ ‬هذه‭ ‬المستندات‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أوراقي‭ ‬المبعثرة،‭ ‬مكتفيًا‭ ‬بترديد‭ ‬التحية‭ ‬لوحدة‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬وللتعاون‭ ‬والتكاتف‭ ‬بين‭ ‬شعوبها‭!‬