الإنسانية بين النظرية والواقع

| عباس العمران

يروي‭ ‬الشيخ‭ ‬علي‭ ‬الطنطاوي‭ ‬–‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ - ‬حادثة‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬–‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ - ‬عندما‭ ‬استنجد‭ ‬به‭ ‬أهل‭ ‬سمرقند‭ ‬طالبين‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يبتّ‭ ‬حكما‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬تُعتبر‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬المشرقة‭ ‬في‭ ‬تاريخنا‭ ‬الإسلامي‭ ‬العظيم؛‭ ‬فقد‭ ‬شكا‭ ‬كهنة‭ ‬“سمرقند”‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬جيش‭ ‬المسلمين‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬عليهم‭ ‬لم‭ ‬يقم‭ ‬بدعوتهم‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬وأنّه‭ ‬لم‭ ‬يمنحهم‭ ‬فرصة‭ ‬التفكير‭ ‬كي‭ ‬يقرروا‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬باغتهم‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غفلة‭ ‬حتى‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬إحكام‭ ‬سيطرته‭ ‬الشديدة‭ ‬على‭ ‬المدينة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬القاضي‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬النزاع‭ ‬بينهم‭.‬

طلب‭ ‬القاضي‭ ‬حضور‭ ‬الطرفين‭: ‬قتيبة‭ ‬قائد‭ ‬جيش‭ ‬المسلمين‭ ‬وكبير‭ ‬كهنة‭ ‬سمرقند‭ ‬الذي‭ ‬سمح‭ ‬له‭ ‬القاضي‭ ‬بالكلام‭ ‬أولا‭ ‬قائلاً‭ ‬له‭: ‬“ما‭ ‬دعواك‭ ‬يا‭ ‬سمرقندي؟”،‭ ‬فأجاب‭: ‬إن‭ ‬قتيبة‭ ‬هجم‭ ‬علينا‭ ‬ولم‭ ‬يدعنا‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬ولم‭ ‬يمهلنا‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬التفت‭ ‬القاضي‭ ‬إلى‭ ‬قتيبة‭ ‬وقال‭: ‬وما‭ ‬قولك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الادعاء؟‭ ‬حينها‭ ‬أجاب‭ ‬قتيبة‭ ‬بأن‭ ‬جميع‭ ‬المدن‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬لم‭ ‬تدخل‭ ‬الإسلام‭ ‬طواعية‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تقبل‭ ‬بدفع‭ ‬الجزية‭ ‬فارتأيتُ‭ ‬مباغتة‭ ‬المدينة‭ ‬حتى‭ ‬يُجبر‭ ‬أهلها‭ ‬على‭ ‬دخول‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭. ‬

فكان‭ ‬رد‭ ‬القاضي‭ ‬صادماً‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬يا‭ ‬قتيبة‭ ‬ما‭ ‬نصرَ‭ ‬الله‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬إلا‭ ‬بالدين،‭ ‬واجتناب‭ ‬الغدر،‭ ‬وإقام‭ ‬العدل،‭ ‬لهذا‭ ‬قضينا‭ ‬بأن‭ ‬يخرج‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬ثم‭ ‬تقوم‭ ‬بإنذار‭ ‬أهلها‭ ‬لترى‭ ‬ما‭ ‬يفعلون،‭ ‬لذلك‭ ‬تقرر‭ ‬إخلاء‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬فوراً‭. ‬وبالفعل؛‭ ‬بدأ‭ ‬المسلمون‭ ‬بالانسحاب‭ ‬العاجل‭ ‬تاركينَ‭ ‬وراءهم‭ ‬الدكاكين‭ ‬والبيوت‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬تنفيذاً‭ ‬لأمر‭ ‬القاضي‭. ‬وأثار‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬أهل‭ ‬سمرقند‭ ‬كثيرا‭ ‬وجعلهم‭ ‬غير‭ ‬مصدّقين‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬أعينهم،‭ ‬فخرجوا‭ ‬كافة‭ ‬مع‭ ‬كهنتهم‭ ‬متجهين‭ ‬إلى‭ ‬معسكر‭ ‬المسلمين‭ ‬وهم‭ ‬يرددون‭: ‬“لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الله،‭ ‬محمد‭ ‬رسول‭ ‬الله”‭.‬

تمثلُ‭ ‬لنا‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬جوهر‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحقيقي،‭ ‬النبل‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬مستوياته‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬جوانب‭ ‬الحياة‭ ‬سِلما‭ ‬أو‭ ‬حربا،‭ ‬هاكَ‭ ‬أيها‭ ‬العالم‭ ‬الآخر،‭ ‬وهاكم‭ ‬يا‭ ‬من‭ ‬تدعون‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬دولكم‭ ‬التي‭ ‬أسميتموها‭ ‬دول‭ ‬التحضر،‭ ‬يا‭ ‬من‭ ‬صممتم‭ ‬آذاننا‭ ‬بزيف‭ ‬شعاراتكم‭ ‬الفارغة،‭ ‬بينما‭ ‬القتل‭ ‬في‭ ‬بلادكم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬اللون‭ ‬والدين‭... ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التنفس‭.‬