ريشة في الهواء

نحن عرب نشتري آلامنا بأنفسنا!

| أحمد جمعة

أغلقتُ‭ ‬أذنيّ‭ ‬وعينيّ‭ ‬وتجاهلتُ‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬من‭ ‬معارك‭ ‬بين‭ ‬فئات‭ ‬وشرائح‭ ‬عربية،‭ ‬معارك‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬طواحين‭ ‬الهواء،‭ ‬هذا‭ ‬يطلق‭ ‬عبارة،‭ ‬فتشتعل‭ ‬الساحة‭ ‬بآلاف‭ ‬المغردين،‭ ‬بشتائم‭ ‬وسباب،‭ ‬ويتدخل‭ ‬آلاف‭ ‬آخرون‭ ‬يدعون‭ ‬الحكمة‭ ‬والحنكة،‭ ‬ثم‭ ‬آلاف‭ ‬آخرون‭ ‬يميزون‭ ‬أنفسهم‭ ‬عن‭ ‬الباقي،‭ ‬وخلال‭ ‬ساعات،‭ ‬تنتهي‭ ‬حروب‭ ‬الطواحين‭ ‬تلك،‭ ‬باستنزاف‭ ‬الجميع‭ ‬طاقاتهم،‭ ‬مع‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬القلق‭ ‬والتوتر‭ ‬واختلال‭ ‬السكر‭ ‬وضغط‭ ‬الدم‭. ‬ولو‭ ‬فحصت‭ ‬تلك‭ ‬المواضيع‭ ‬لوجدتها‭ ‬لا‭ ‬تساوي‭ ‬شيئا‭ ‬يذكر،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬سُطرت‭ ‬فيه،‭ ‬لكن‭ ‬تستمر‭ ‬دوامة‭ ‬ضخ‭ ‬تلك‭ ‬البراميل‭ ‬من‭ ‬الترهات‭ ‬وتستغرب‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬العرب‭ ‬بالذات‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬يخوضون‭ ‬المعارك‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬على‭ ‬بديهيات‭ ‬متفقين‭ ‬عليها‭ ‬مسبقًا،‭ ‬لكنهم‭ ‬اختلفوا‭ ‬عليها‭ ‬فقط‭ ‬لأنهم‭ ‬عرب‭! ‬وهذه‭ ‬عادتهم‭ ‬منذ‭ ‬التاريخ‭.‬

خذ‭ ‬مثالاً‭ ‬صارخًا‭ ‬موضوع‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين،‭ ‬منذ‭ ‬1948‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ ‬حروبهم‭ ‬بينهم‭ ‬تفوق‭ ‬بملايين‭ ‬النقاط‭ ‬حربهم‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬خذ‭ ‬موضوع‭ ‬الفتاوي‭ ‬الدينية،‭ ‬رغم‭ ‬معرفتهم‭ ‬منذ‭ ‬الأزل‭ ‬بكل‭ ‬قيم‭ ‬وقواعد‭ ‬وأسس‭ ‬الدين،‭ ‬لكنهم‭ ‬انقسموا‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬مئات‭ ‬المرات‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬حفظوها‭ ‬جيلا‭ ‬بعد‭ ‬جيل،‭ ‬خذ‭ ‬أي‭ ‬موضوع‭ ‬مهما‭ ‬كبر‭ ‬أو‭ ‬صغر‭ ‬واطرح‭ ‬فيه‭ ‬رأيا‭ ‬ما‭ ‬واعرضه‭ ‬على‭ ‬التصويت،‭ ‬سترى‭ ‬كل‭ ‬الذين‭ ‬اتفقوا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬قبل‭ ‬طرحه‭ ‬عادوا‭ ‬واختلفوا‭ ‬عليه‭ ‬بمجرد‭ ‬إثارته‭ ‬بمناسبة‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قناة‭ ‬ما،‭ ‬ألف‭ ‬كذبة‭ ‬من‭ ‬جيبك‭ ‬وفبركها‭ ‬وأطلقها‭ ‬في‭ ‬تويتر،‭ ‬أو‭ ‬قم‭ ‬بنشرها‭ ‬عبر‭ ‬الواتساب،‭ ‬شرط‭ ‬أن‭ ‬تحبكها‭ ‬جيدًا‭ ‬ويستحسن‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬فوقها‭ ‬بعض‭ ‬البهارات،‭ ‬مثل‭ ‬اسم‭ ‬جريدة‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬قناة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬ما،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬وجود‭ ‬لهذه‭ ‬الوسيلة‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬اختراعك،‭ ‬سترى‭ ‬الذباب‭ ‬والحشرات‭ ‬والنمل‭ ‬وكل‭ ‬الأشكال‭ ‬الإلكترونية‭ ‬تتلقفها‭ ‬وتدور‭ ‬طواحين‭ ‬الهواء‭ ‬حولها،‭ ‬وقد‭ ‬يصل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬معارك‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬وتفجر‭ ‬براميل‭ ‬من‭ ‬الجراح،‭ ‬بسبب‭ ‬عبارة‭ ‬مؤلفة‭ ‬بحبكة‭.‬

لذلك‭ ‬سَددْتُ‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬أذناي‭ ‬وأغمضتُ‭ ‬عيناي،‭ ‬وتجاهلت‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬بعيدة‭ ‬هذه‭ ‬الوسائل‭ ‬وذبابها‭ ‬ونملها‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬واكتفيت‭ ‬بالعزلة‭ ‬نتيجة‭ ‬كورونا‭... ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬كسبتُ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬معارف‭ ‬جديدة،‭ ‬وخبرات،‭ ‬وحققت‭ ‬الكثير،‭ ‬كنت‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬أهدرها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الوسائل،‭ ‬لا‭ ‬أدعي‭ ‬أنني‭ ‬انقطعت‭ ‬عن‭ ‬العالم،‭ ‬فهذا‭ ‬مستحيل،‭ ‬لأنك‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تذهب‭ ‬للعالم‭ ‬فالعالم‭ ‬يأتيك‭ ‬بنفسه،‭ ‬لكن‭ ‬وضعت‭ ‬سدًا‭ ‬منيعًا‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تفرزه‭ ‬طواحين‭ ‬الهواء‭ ‬من‭ ‬غبار‭ ‬ورذاذ،‭ ‬أشد‭ ‬فتكاً‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬من‭ ‬كورونا،‭ ‬ولو‭ ‬قاس‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬منا‭ ‬حجم‭ ‬القلق‭ ‬والتوتر‭ ‬والضغوط‭ ‬التي‭ ‬تصنعها‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬الوسائل‭ ‬وما‭ ‬تفرزه‭ ‬من‭ ‬ترهات،‭ ‬لاندهش‭ ‬من‭ ‬تجرعه‭ ‬هذه‭ ‬السموم‭ ‬كل‭ ‬دقيقة‭ ‬وبإرادته‭.‬

اشتكى‭ ‬أحدهم‭ ‬لي‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬جرحه‭ ‬على‭ ‬الواتساب،‭ ‬وظلّ‭ ‬متألمًا‭ ‬الأسبوع‭ ‬بطوله،‭ ‬استغربتُ‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الألم‭ ‬أنه‭ ‬مازال‭ ‬يحتفظ‭ ‬بحسابه‭ ‬معه‭!.‬

 

تنويرة‭: ‬

لا‭ ‬تكن‭ ‬شاهدًا‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬حاضرًا‭.‬