نظرات في الفرد والمجتمع... صاحب الرّأي

| تقي محمد البحارنة

يقول‭ ‬الشاعر‭:‬

الرأي‭ ‬قبل‭ ‬شجاعة‭ ‬الشجعان‭ **  ‬هو‭ ‬أول‭ ‬وهي‭ ‬المحل‭ ‬الثاني

تتناوب‭ ‬الإنسان‭ ‬ميول‭ ‬وأهواء‭ ‬من‭ ‬الهواجس‭ ‬فيما‭ ‬يفعل‭ ‬وفيما‭ ‬يقول‭. ‬وإزاء‭ ‬كل‭ ‬تصرّف‭ ‬هاجس‭ ‬يقول‭: ‬افعل‭, ‬وآخر‭ ‬يقول‭ ‬لا‭ ‬تفعل‭. ‬وقد‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬تعويذة‭ ‬خاصة‭ ‬بالوسواس‭ ‬الخناس‭ ‬الذي‭ ‬يوسوس‭ ‬في‭ ‬صدور‭ ‬الناس‭.‬

ولكن‭ ‬الظروف‭ ‬والملابسات‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بأعمال‭ ‬البشر‭ ‬وأقوالهم‭ ‬ليست‭ ‬بتلك‭ ‬البساطة‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬المواقف‭ ‬الصحيحة‭. ‬فالغضب‭ ‬والانفعال‭ ‬والقلق‭ ‬والحيرة‭ ‬والتردد‭ ‬مضافة‭ ‬إلى‭ ‬الجهل‭ ‬بالأمور‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬مكبوت‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تحول‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬دون‭ ‬الورود‭ ‬إلى‭ ‬القرار‭ ‬الصواب‭.‬

وهنا‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬التوعية‭ ‬والإرشاد‭ ‬والنصح‭ ‬ومسئولية‭ ‬أصحاب‭ ‬الرأي‭ ‬والتجربة‭ ‬للإدلاء‭ ‬بأفكار‭ ‬ومعالجات‭ ‬تنير‭ ‬الطريق‭ ‬لمن‭ ‬ضـّل‭ ‬عن‭ ‬سبيله‭.‬

وعادة‭ ‬ما‭ ‬يتصدّر‭ ‬خطباء‭ ‬الجوامع‭ ‬ومنابر‭ ‬الوعظ‭ ‬لمهمة‭ ‬الإرشاد‭ ‬مستندين‭ ‬إلى‭ ‬أحاديث‭ ‬الترغيب‭ ‬والترهيب‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬‭ ‬وينفعل‭ ‬السامعون‭ ‬فيصلـّون‭ ‬لربهم‭ ‬ويكبـّرون‭ ‬ويدعون‭ ‬ما‭ ‬داموا‭ ‬في‭ ‬أورادهم‭ ‬خاشعين‭. ‬فإذا‭ ‬انفضـّوا‭ ‬رجع‭ ‬أكثرهم‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬وكأنهم‭ ‬قد‭ ‬نسوا‭ ‬ما‭ ‬ذكـّروا‭ ‬به‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬للعاقل‭ ‬المفكـّر‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭.‬

يبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الأسباب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المستمعين‭ ‬لتلك‭ ‬المواعظ‭ ‬قد‭ ‬ملـّوا‭ ‬من‭ ‬تكرارها‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬ما‭ ‬سمعوها‭ ‬لأنهم‭ ‬مقتنعون‭ ‬بها‭ ‬أصلا‭ ‬باعتبارها‭ ‬مواعظ‭ ‬عامة‭ ‬مسلم‭ ‬بها‭ ‬وليست‭ ‬خاصة‭ ‬بحل‭ ‬مشكلة‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬منهم‭ ‬والظروف‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬دون‭ ‬غيره‭.‬

فمثلا‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬بائس‭ ‬فقير‭, ‬أو‭ ‬قليل‭ ‬الدخل‭ ‬وله‭ ‬ذرية‭ ‬ينفق‭ ‬عليها‭, ‬فلا‭ ‬يجد‭ ‬طريقا‭ ‬غير‭ ‬خيانة‭ ‬الذمــّة‭ ‬أو‭ ‬الرشوة‭ ‬أو‭ ‬الاختلاس‭ ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬لا‭ ‬تفيد‭ ‬فيه‭ ‬المواعظ‭, ‬وإنما‭ ‬يتطلب‭ ‬ذلك‭ ‬معالجة‭ ‬وضعه‭ ‬الخاص‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة‭. ‬ومثل‭ ‬آخر‭ ‬لفرد‭ ‬عانى‭ ‬في‭ ‬طفولته‭ ‬الأمرّين‭ ‬من‭ ‬شظف‭ ‬العيش‭ ‬وقسوة‭ ‬الوالدين‭ ‬أو‭ ‬فقدانهما‭, ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬مجتمعه‭ ‬رحمة‭ ‬ولا‭ ‬شفقة‭ ‬بل‭ ‬إعراضا‭ ‬وتجاهلا‭ ‬وفيه‭ ‬من‭ ‬يبيت‭ ‬متخما‭ ‬وجاره‭ ‬جائع‭..‬‭ ‬فتنبت‭ ‬فيه‭ ‬الكراهية‭ ‬وحب‭ ‬الانتقام‭. ‬وذلك‭ ‬أمر‭ ‬كثير‭ ‬الحدوث‭. ‬فهو‭ ‬إذن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬علاج‭ ‬نفسي‭ ‬وتربوي‭ ‬وتأهيل‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬شريف‭, ‬ولا‭ ‬تكفيه‭ ‬مجرد‭ ‬الموعظة‭ ‬ثم‭ ‬تركه‭ ‬لحال‭ ‬سبيله‭ ‬وحيدا‭ ‬ضائعا‭.‬

والأمثلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬كثيرة‭ ‬وخلاصة‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬النصائح‭ ‬والمواعظ‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقترن‭ ‬بدراسة‭ ‬أوضاع‭ ‬وظروف‭ ‬المنحرفين‭ ‬في‭ ‬سلوكهم‭ ‬الأخلاقي‭ ‬والمجتمعي‭ ‬والأخذ‭ ‬بيدهم‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭. ‬والمجتمعات‭ ‬المتقدمة‭ ‬الراقية‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬القليل‭ ‬أو‭ ‬الكثير‭.‬

وحتى‭ ‬الإنسان‭ ‬العادي‭ ‬الملتزم‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الحاجة‭ ‬لمعرفة‭ ‬الرأي‭ ‬الصائب‭ ‬لاتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬مشكل‭ ‬ومحيــّر‭.. ‬

وفي‭ ‬خبرة‭ ‬المختصين‭ ‬والمفكرين‭ ‬والمثقفين‭ ‬والأدباء‭ ‬والكتاب‭ ‬مجال‭ ‬واسع‭ ‬لأبداء‭ ‬الاراء‭ ‬المفيدة‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬مشاكل‭ ‬المجتمع‭ ‬وهموم‭ ‬الناس‭, ‬وليتهم‭ ‬يفعلون‭, ‬فنحن‭ ‬بحاجة‭ ‬ماســّة‭ ‬إلى‭ ‬صاحب‭ ‬الرأي‭ ‬وحلال‭ ‬المشاكل‭.‬

وأخيرًا‭ ‬أتمنــّى‭ ‬على‭ ‬الدوائر‭ ‬المسئولة‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬المعيشي‭ ‬وكذلك‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والجمعيات‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬في‭ ‬اعتبارها‭ ‬مع‭ ‬المساعدات‭ ‬المالية‭ ‬والعينية‭ ‬شعارا‭ ‬يقول‭:‬

‭( ‬نساعدك‭ ‬لنعلمك‭ ‬كيف‭ ‬تساعد‭ ‬نفسك‭ ‬بنفسك‭ ) ‬والله‭ ‬لا‭ ‬يضـيع‭ ‬أجر‭ ‬من‭ ‬أحسن‭ ‬عملا‭. ‬