قهوة الصباح

الأوقاف وأكياس الحزن والشعير

| سيد ضياء الموسوي

ليس‭ ‬دور‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬الصحافة‭ ‬الوفير‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلامس‭ ‬أصابعه‭ ‬الأرصفة‭. ‬ليس‭ ‬دوره‭ ‬أن‭ ‬يرقص‭ ‬رقصة‭ ‬الفلامنكو‭ ‬مع‭ ‬الوزارات،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يجلس‭ ‬يتامى‭ ‬الخبز‭ ‬ينتظرون‭ ‬رغيفا‭ ‬مهربا‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الحفلة‭. ‬يقول‭ ‬أديب‭ ‬ألمانيا‭ ‬كافكا‭: ‬“إذا‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬نقرأه‭ ‬لا‭ ‬يوقظنا‭ ‬بخبطة‭ ‬على‭ ‬جمجمتنا،‭ ‬فلماذا‭ ‬نقرأ‭ ‬إذن؟‭ ‬إننا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تنزل‭ ‬علينا‭ ‬كالصاعقة،‭ ‬التي‭ ‬تجعلنا‭ ‬نشعر‭ ‬وكأننا‭ ‬طردنا‭ ‬إلى‭ ‬الغابات‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الناس‭. ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كالفأس‭ ‬التي‭ ‬تحطم‭ ‬البحر‭ ‬المتجمد‭ ‬في‭ ‬داخلنا‭. ‬يجب‭ ‬علينا‭ ‬فقط‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تدمينا،‭ ‬بل‭ ‬وتغرس‭ ‬خناجرها‭ ‬فينا،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬نقرأ‭ ‬لا‭ ‬يوقظنا‭ ‬من‭ ‬غفلتنا،‭ ‬فإذا‭ ‬لماذا‭ ‬نقرأه‭ ‬أساسًا؟”‭.‬

انتقدت‭ ‬قبل‭ ‬سنين‭ ‬الأوقاف‭ ‬الجعفرية‭ ‬بسبعين‭ ‬مقالا،‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أشخصن‭ ‬نقدي‭. ‬وانتقدت‭ ‬هيئة‭ ‬التأمين‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬تشوه‭ ‬جمجمة‭ ‬بعض‭ ‬آرائها‭ ‬وخياراتها‭ ‬في‭ ‬2018‭ ‬وانتقدت‭ ‬البطالة‭ ‬وهيئة‭ ‬الكهرباء‭ ‬وغيرهم؛‭ ‬لإيماني‭ ‬أن‭ ‬الصراحة‭ ‬المتوازنة‭ ‬تخلق‭ ‬وطنا‭ ‬متوازنا،‭ ‬والوسطية‭ ‬أمارسها‭ ‬كمنهج‭ ‬حياة‭ ‬وفلسفة‭ ‬وجودية‭. ‬لست‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إشارات‭ ‬فلسفية‭ ‬لنيتشه‭ ‬“الإنسان‭ ‬الأعلى”،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬تلميحات‭ ‬فرويدية‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬بنيوي‭ ‬للبناء‭ ‬النفسي‭ ‬لمعرفة‭ ‬نفسية‭ ‬إدارة‭ ‬الأوقاف‭ ‬الجعفرية‭ ‬لنكتشف‭ ‬خريطة‭ ‬التاريخ‭ ‬التراجيدي‭ ‬لثقوب‭ ‬الوجع‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نحتاجه‭ ‬تفكيك‭ ‬الأوقاف‭ ‬ثم‭ ‬إعادة‭ ‬تركيبها‭ ‬منذ‭ ‬تأسيسها‭. ‬لسنين‭ ‬طويلة،‭ ‬كانت‭ ‬الأوقاف‭ ‬تمتلك‭ ‬قدرة‭ ‬القفز‭ ‬على‭ ‬المنحدرات،‭ ‬والتحايل‭ ‬دون‭ ‬احتراق‭ ‬أصابعها‭ ‬بحرائق‭ ‬النقد‭ ‬الموزع‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تقارير‭ ‬ديوان‭ ‬الرقابة‭ ‬المالية،‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬هيئة‭ ‬التأمين‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬مرنة‭ ‬في‭ ‬القفز‭ ‬كفهد‭ ‬إفريقي‭. ‬ولعل‭ ‬الأوقاف‭ ‬تنحى‭ ‬منحى‭ ‬الأديب‭ ‬الروسي‭ ‬العظيم‭ ‬تشيخوف‭ ‬في‭ ‬رواياته،‭ ‬حيث‭ ‬يختار‭ ‬الطبقات‭ ‬الضعيفة‭ ‬كأبطال‭ ‬في‭ ‬قصصه‭ ‬الإنسانية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬الأوقاف‭ ‬تختار‭ ‬الحلقات‭ ‬الأضعف‭ ‬عندما‭ ‬يضيق‭ ‬عليها‭ ‬خناق‭ ‬المساءلة‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬طول‭ ‬تاريخها‭. ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬طول‭ ‬تاريخ‭ ‬محاسبة‭ ‬الأوقاف،‭ ‬ولو‭ ‬صحافيا،‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬“أبطالها”‭ ‬بلا‭ ‬محاسبة‭.‬

خيرا‭ ‬فعلت‭ ‬وزارة‭ ‬العدل‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬أملا‭ ‬كبيرا‭ ‬بأن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬فوق‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬سوط‭ ‬القانون،‭ ‬والمطلوب‭ ‬هو‭ ‬المحاسبة‭ ‬لأي‭ ‬سمكة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬أسماك‭ ‬الماضي‭ ‬لمعرفة‭ ‬الحقيقة‭. ‬إن‭ ‬لكل‭ ‬شخص‭ ‬ثمنا،‭ ‬فكي‭ ‬تمسك‭ ‬بالأسماك‭ ‬الصغيرة‭ ‬لا‭ ‬تنس‭ ‬الأسماك‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬أثخنت‭ ‬بالجراح‭ ‬لسنين‭ ‬طويلة،‭ ‬ولماذا‭ ‬تبقى‭ ‬هذه‭ ‬الدائرة‭ ‬تنزف‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الإغماء‭ ‬المالي،‭ ‬والكومة‭ ‬المحاسبية،‭ ‬وما‭ ‬قصة‭ ‬النزيف‭ ‬المالي‭ ‬وإن‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬مأتم‭ ‬الهملة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬تحتاج‭ ‬مراجعة‭. ‬يقول‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬وهو‭ ‬يرثي‭ ‬حبيبته‭ ‬بلقيس‭:‬

“بلقيسُ‭:‬

إنْ‭ ‬هم‭ ‬فَجَّرُوكِ‭.. ‬فعندنا

كلُّ‭ ‬الجنائزِ‭ ‬تبتدي‭ ‬في‭ ‬كَرْبَلاءَ‭..‬

وتنتهي‭ ‬في‭ ‬كَرْبَلاءْ”‭.‬

 

أنا‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬كيف‭ ‬لتجاوزات‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬وقف‭ ‬مقدس‭ ‬تلقى‭ ‬عليه‭ ‬القرابين‭. ‬قديما‭ ‬قيل‭: ‬عندما‭ ‬تخوض‭ ‬معركة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬تخوض‭ ‬معركتك،‭ ‬وهنا‭ ‬معركة‭ ‬لؤم‭ ‬التجاوز‭ ‬مع‭ ‬إمام‭ ‬عظيم،‭ ‬مع‭ ‬قنديل‭ ‬بشري‭ ‬مقدس‭ ‬يطل‭ ‬بهامته‭ ‬على‭ ‬رمح‭ ‬استحال‭ ‬وتدا‭ ‬تنام‭ ‬على‭ ‬منتهاه‭ ‬الشمس‭... ‬قنديل‭ ‬مكسور‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الكبرياء‭ ‬مازال‭ ‬يتدلى‭ ‬على‭ ‬بوابة‭ ‬الوجود،‭ ‬يشير‭ ‬بضوئه‭ ‬الذي‭ ‬استحال‭ ‬إلى‭ ‬إصبع‭ ‬مقطوع‭ ‬إلى‭ ‬العدالة‭ ‬تحتذى،‭ ‬فأي‭ ‬عمى‭ ‬دنيوي‭ ‬يحول‭ ‬عن‭ ‬مشاهدة‭ ‬سطوع‭ ‬شمس‭ ‬الحقيقة‭ ‬على‭ ‬الأكياس‭ ‬المأخوذة‭ ‬من‭ ‬خزانة‭ ‬مقدسة؟‭ ‬أنا‭ ‬أحد‭ ‬الذين‭ ‬مارسوا‭ ‬قبل‭ ‬15عاما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬جراحية‭ ‬لقلب‭ ‬الأوقاف‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الشرايين‭ ‬بكتابات‭ ‬كانت‭ ‬تنتهج‭ ‬النزف‭ ‬اليومي‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬الكتابة‭. ‬واستطعت‭ ‬بسبعين‭ ‬مقالا‭ ‬تحقيق‭ ‬إنجازات‭ ‬للملف‭ ‬أن‭ ‬نرفع‭ ‬سعر‭ ‬الأراضي،‭ ‬وتسجيل‭ ‬الكثير‭ ‬منها،‭ ‬وتنظيف‭ ‬بعض‭ ‬السجاد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخفى‭ ‬تحته‭ ‬غبار‭ ‬الفضائح،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الأيام،‭ ‬ولأن‭ ‬الأوقاف‭ ‬أشبه‭ ‬بيتيم‭ ‬كـ‭ ‬“اليفرتويست”‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬تشارلز‭ ‬ديكنز‭ ‬تصبح‭ ‬بلا‭ ‬محاسبة،‭ ‬وعفا‭ ‬الله‭ ‬عما‭ ‬سلف‭.‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يزرع‭ ‬الريح‭ ‬يحصد‭ ‬العواصف‭. ‬تعلمنا‭ ‬من‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬لجلالة‭ ‬الملك‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬نراهن‭ ‬على‭ ‬الحرية‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬انبرى‭ ‬صحافيون‭ ‬يرفضون‭ ‬الأوكسجين‭. ‬هذا‭ ‬“الصداع‭ ‬الوقفي”‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يقلق‭ ‬السلطة،‭ ‬ويقلق‭ ‬المجتمع،‭ ‬فالسلطة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬علاج‭ ‬غير‭ ‬“البنادول”،‭ ‬ويقلق‭ ‬الناس‭ ‬بسبب‭ ‬الثقب‭ ‬الأسود‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬كثقب‭ ‬الأوزون،‭ ‬لا‭ ‬يوقفه‭ ‬لا‭ ‬كورونا‭ ‬ولا‭ ‬غير‭ ‬كورونا‭. ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬الجديدة‭ ‬أن‭ ‬تدفع‭ ‬باتجاه‭ ‬نفض‭ ‬الغبار‭ ‬عن‭ ‬الملفات‭ ‬العالقة،‭ ‬ووضع‭ ‬أسنان‭ ‬المراقبة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬جديد،‭ ‬وتفتح‭ ‬شهية‭ ‬الصحافة‭ ‬لنبش‭ ‬الأوراق‭. ‬وهنا‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬نفرق‭ ‬في‭ ‬المحاسبة‭ ‬بين‭ ‬نوعية‭ ‬قماش‭ ‬الأسماء‭ ‬من‭ ‬الحرير‭ ‬أو‭ ‬النايلون؛‭ ‬لأن‭ ‬العدالة‭ ‬لا‭ ‬تمييز‭ ‬بين‭ ‬الألوان‭ ‬البشرية‭. ‬كل‭ ‬من‭ ‬رقص‭ ‬في‭ ‬زفة‭ ‬عرس‭ ‬التجاوز‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحاسب‭.‬

وهنا،‭ ‬نطالب‭ ‬الإدارة‭ ‬بعرض‭ ‬شفاف‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬قبل‭ ‬استلامها‭ ‬للإدارة،‭ ‬وإجابات‭ ‬شافية‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬طرحته‭ ‬تقارير‭ ‬الرقابة‭ ‬المالية،‭ ‬والإجابة‭ ‬عليها،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬التغيير،‭ ‬وهل‭ ‬كانت‭ ‬المناقصات‭ ‬سليمة،‭ ‬وأسعار‭ ‬مواد‭ ‬المشروعات‭ ‬غير‭ ‬مبالغ‭ ‬فيها،‭ ‬وهل‭ ‬تمت‭ ‬المناقصات‭ ‬بطريقة‭ ‬شفافة‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬محاباة‭ ‬في‭ ‬إيجارات‭ ‬الوقف،‭ ‬وكيف‭ ‬سيتم‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬مبني‭ ‬الأوقاف‭ ‬الضخم‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬السيف،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬الاستفادة‭ ‬منه؟‭ ‬وكيفية‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬أموال‭ ‬المآتم‭ ‬التي‭ ‬أصيب‭ ‬بعضها‭ ‬بمرض‭ ‬الأنيميا‭ ‬الحاد‭ ‬بسبب‭ ‬سوء‭ ‬التصرف؟‭ ‬سوف‭ ‬نعمد‭ ‬إلى‭ ‬تقارير‭ ‬ديوان‭ ‬الرقابة‭ ‬المالية‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬أسئلة‭ ‬ساخنة‭ ‬كرغيف‭.‬