النقلة النوعية في الدوبامين.. من اللذة الحسية إلى المتعة الفكرية

| د. ندى أحمد الحساوي

يسود‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأنّ‭ ‬الدوبامين‭ ‬هو‭ ‬هرمون‭ ‬المتعة،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأطعمة‭ ‬والممارسات‭ ‬البشرية‭ ‬الباعثة‭ ‬على‭ ‬البقاء،‭ ‬والتي‭ ‬تثير‭ ‬إفراز‭ ‬الدوبامين‭ ‬للإحساس‭ ‬بالاسترخاء‭ ‬واللذة‭ ‬الجسدية،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭ ‬العلمية‭ ‬للدوبامين؟

منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬قام‭ ‬العالمان‭ ‬“مورتن‭ ‬كرينجلباش”‭ ‬و”كينت‭ ‬بيريدج”‭ ‬بحقن‭ ‬أدمغة‭ ‬جرذان‭ ‬بمادة‭ ‬محفّزة‭ ‬لإفراز‭ ‬كمية‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الدوبامين،‭ ‬فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أنّ‭ ‬الجرذان‭ ‬اندفعت‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الطعام‭ ‬السكّري،‭ ‬مقارنة‭ ‬بمن‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬حقنها‭ ‬بنفس‭ ‬المادة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬شعور‭ ‬المجموعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الجرذان‭ ‬بلذة‭ ‬ذلك‭ ‬الطعام‭ ‬السكّري‭ ‬لم‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬من‭ ‬المجموعة‭ ‬الثانية،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬بلذة‭ ‬الطعام‭ ‬يرصد‭ ‬بإيماءات‭ ‬وجوهها،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬نفس‭ ‬الإيماءات‭ ‬التي‭ ‬يعبر‭ ‬بها‭ ‬أطفالنا‭ ‬الصغار‭ ‬عن‭ ‬مذاق‭ ‬الطعام،‭ ‬وعند‭ ‬حقن‭ ‬أدمغة‭ ‬مجموعة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الجرذان‭ ‬بمادة‭ ‬تؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬تدن‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬إفراز‭ ‬مادة‭ ‬الدوبامين،‭ ‬حدث‭ ‬العكس،‭ ‬حيث‭ ‬انعدمت‭ ‬لديها‭ ‬الرغبة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الطعام‭ ‬السكّري‭ ‬حتى‭ ‬أوشكت‭ ‬على‭ ‬الهلاك،‭ ‬لكن‭ ‬عند‭ ‬إطعامها‭ ‬بوضع‭ ‬ذلك‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬أفواهها،‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬لذة‭ ‬الطعم‭ ‬السكّري،‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نستنتج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الواضحة‭ ‬أن‭ ‬الدوبامين‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬ناقل‭ ‬عصبي‭ ‬وليس‭ ‬هرمونا،‭ ‬مرتبط‭ ‬بالرغبة‭ ‬دون‭ ‬اللذة‭ ‬أو‭ ‬المتعة‭. ‬

وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك،‭ ‬فإن‭ ‬دوبامين‭ ‬الرغبة‭ ‬قد‭ ‬يفرز‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬دماغي‭ ‬مرتبط‭ ‬باللذة‭ ‬الحسية،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬يفرز‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬دماغي‭ ‬آخر‭ ‬مرتبط‭ ‬بالمتعة‭ ‬الفكرية،‭ ‬وما‭ ‬علينا‭ ‬سوى‭ ‬الاختيار،‭ ‬فالمسار‭ ‬الحسي‭ ‬يكون‭ ‬بمرور‭ ‬الدوبامين‭ ‬على‭ ‬نقاط‭ ‬تسمى‭ ‬نقاط‭ ‬اللذة‭ ‬الحسية‭ ‬التي‭ ‬بدورها‭ ‬تفرز‭ ‬مواد‭ ‬كيميائية‭ (‬شبيهة‭ ‬بالمواد‭ ‬المخدّرة‭)‬،‭ ‬تلك‭ ‬النقاط‭ ‬هي‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬تضخيم‭ ‬الشعور‭ ‬بلذة‭ ‬الطعام‭ ‬السكّري،‭ ‬ما‭ ‬يحفّز‭ ‬تناول‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬السكريات،‭ ‬والإدمان‭ ‬عليها‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت،‭ ‬حالها‭ ‬حال‭ ‬المخدّرات‭ ‬والمسكّرات‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬والسلوكيات‭ ‬التي‭ ‬يتعوّد‭ ‬عليها‭ ‬البشر‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬التوتّر‭ ‬والاكتئاب،‭ ‬فيكون‭ ‬بقاء‭ ‬الإنسان‭ ‬بين‭ ‬التوتر‭ ‬والإدمان‭ ‬سلسلة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬اللاوعي‭ ‬في‭ ‬قيمته‭ ‬الكونيّة‭. ‬أما‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬إفراز‭ ‬الدوبامين‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬المتعة‭ ‬الفكرية،‭ ‬فإنه‭ ‬يكون‭ ‬بمرور‭ ‬الدوبامين‭ ‬بمناطق‭ ‬القشرة‭ ‬الجبهية‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالشعور‭ ‬بالإنجاز‭ ‬الحقيقي‭ ‬والامتلاء‭ ‬الروحي،‭ ‬وليس‭ ‬الإشباع‭ ‬المادي‭ ‬المؤقت‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬اللذة‭ ‬الحسية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬انطلق‭ ‬فيما‭ ‬يعشق‭ ‬عمله‭ ‬بالتحدّي‭ ‬والإنجاز‭ ‬بلا‭ ‬قيود،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬قيود‭ ‬عقلية‭ ‬ليس‭ ‬إلاّ،‭ ‬فتكون‭ ‬ممارسة‭ ‬ذلك‭ ‬العشق‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬القيمة‭ ‬العليا‭ ‬للإنسان‭ ‬بهدف‭ ‬واضح‭ ‬مقرون‭ ‬بالحياة‭ ‬الواعية،‭ ‬التي‭ ‬تنبثق‭ ‬عن‭ ‬اتساق‭ ‬القلب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مكمن‭ ‬القيمة‭ ‬العليا‭ ‬لذلك‭ ‬الإنسان،‭ ‬والجزء‭ ‬الأمامي‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬المناط‭ ‬باستقبال‭ ‬الأفكار‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالقيمة‭ ‬العليا،‭ ‬لتفعيل‭ ‬الخيال‭ ‬وتجسيد‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المادي،‭ ‬هنا‭ ‬فقط‭ ‬يرتفع‭ ‬اللاوعي‭ ‬الحسي‭ ‬الجسدي‭ ‬إلى‭ ‬الوعي‭ ‬الفكري‭ ‬الروحي‭. ‬فعندما‭ ‬يرتبط‭ ‬إفراز‭ ‬الدوبامين‭ ‬من‭ ‬مسار‭ ‬اللذة‭ ‬الحسية‭ ‬إلى‭ ‬المتعة‭ ‬الفكرية‭ ‬تحدث‭ ‬النقلة‭ ‬النوعية،‭ ‬أي‭ ‬النقلة‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬البقاء‭ ‬إلى‭ ‬الحياة،‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التأمّل‭ ‬في‭ ‬الذات‭.‬