قهوة الصباح

النزف على ورق الكتابة

| سيد ضياء الموسوي

عندما‭ ‬يقل‭ ‬أكسجين‭ ‬الحياة،‭ ‬وتتزاحم‭ ‬الأزقة،‭ ‬وتضيق‭ ‬الأرصفة‭ ‬يلتجئ‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬الى‭ ‬مخدعه‭ ‬الأحب‭. ‬طيلة‭ ‬الأشهر‭ ‬انشغلت‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬حديقتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬حيث‭ ‬اقتطف‭ ‬قناديلي‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬المعرفة‭. ‬وحدها‭ ‬الثقافة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إسكارك‭ ‬بنشوة‭ ‬التسامر‭ ‬مع‭ ‬القمر‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬وحدك‭. ‬يقول‭ ‬الامام‭ ‬علي‭ ‬“ع”‭ ‬في‭ ‬تعريف‭ ‬الثقافة‭ (‬في‭ ‬الملأ‭ ‬جمالٌ‭ ‬وفي‭ ‬الوحدة‭ ‬أنس‭) ‬لا‭ ‬أخفي‭ ‬عليكم‭ ‬بقيت‭ ‬متسمرا‭ ‬طيلة‭ ‬أشهر‭ ‬مع‭ ‬فلاسفة‭ ‬متنوعين،‭ ‬وشعراء‭ ‬عالميين،‭ ‬وكتاب‭ ‬وأدباء‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬بودلير‭ ‬ودانتي‭ ‬وبوشكين،‭ ‬ورحت‭ ‬أشاطر‭ ‬الحديث‭ ‬دوستويفيسكي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وجعه،‭ ‬خصوصا‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬رقبته‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬منصة‭ ‬الإعدام‭. ‬جلست‭ ‬مع‭ ‬عشيقة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي،‭ ‬سارتر،‭ ‬سيمون‭ ‬دي‭ ‬بوفار‭ ‬وقرأت‭ ‬لها‭ ‬فلسفتها‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬حيث‭ ‬قسمت‭ ‬العلاقات‭ ‬الغرامية‭ ‬بين‭ (‬حب‭ ‬الضرورة‭ ) ‬و‭(‬الحب‭ ‬العرضي‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬رفضت‭ ‬الإنجاب،‭ ‬قائلة‭: (‬الزواج‭ ‬نعش‭ ‬والأبناء‭ ‬مساميره‭)‬،‭ ‬وهذا‭ ‬سأتناوله‭ ‬لاحقا‭ ‬في‭ ‬الكتابات‭ ‬القادمة‭ ‬بمنطق‭ ‬فلسفي‭ ‬أركويولوجي‭. ‬فأنا‭ ‬أجد‭ ‬الزواج‭ ‬شجرة‭ ‬مانجو‭ ‬لأثمار‭ ‬حديقة‭ ‬الحياة‭. ‬

ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬استوقفني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأشهر،‭ ‬كتابات‭ ‬الأديب‭ ‬الروسي‭ ‬العظيم‭ ‬انتون‭ ‬تشيخوف‭ ‬صاحبة‭ ‬قصة‭ (‬المغفلة‭) ‬والقصص‭ ‬القصيرة‭. ‬هذا‭ ‬الأديب‭ ‬والطبيب‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت،‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬بسقوط‭ ‬الأمبراطورية‭ ‬القيصرية،‭ ‬ومهد‭ ‬للثورة‭ ‬البلشفية‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬بحكم‭ ‬شيوعي‭ ‬انغمس‭ ‬في‭ ‬يوتوبية‭ ‬ورومانسية‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬ولم‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬غطرسة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬وترهات‭ ‬القطط‭ ‬السمان‭ ‬من‭ ‬تجارها‭. ‬

كان‭ ‬لتشيخوف‭ ‬تأثير‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الاقطاع‭ ‬ورفض‭ ‬تحويل‭ ‬جلود‭ ‬الفقراء‭ ‬إلى‭ ‬أحذية‭ ‬لامعة‭ ‬يلبسها‭ ‬أصحاب‭ ‬الدم‭ ‬الأزرق‭ ‬أو‭ ‬حقائب‭ ‬جلدية‭ ‬لحفلات‭ ‬بنات‭ ‬الإقطاعيين‭ ‬في‭ ‬روسيا‭. ‬بالطبع‭ ‬للشاعر‭ ‬الروسي‭ ‬الكبير‭ ‬بوشكين‭ ‬دور‭ ‬كبير،‭ ‬وآلمني‭ ‬طريقة‭ ‬قتله،‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬انحاز‭ ‬للفلاحين‭. ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬دور‭ ‬تولستوي‭ ‬الذي‭ ‬أراه‭ ‬إنسانا‭ ‬عظيما‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬انتقده‭ ‬في‭ ‬تشدده‭ ‬اليوتوبي‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬تركته‭ ‬وأراضيه‭ ‬وبقائه‭ ‬وحيدا‭ ‬هاربا‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬حتى‭ ‬مات‭ ‬بسبب‭ ‬الشتاء‭ ‬القارص‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬قطار‭. ‬رسالتان‭ ‬أثارتا‭ ‬فيَّ‭ ‬الحزن،‭ ‬رسالة‭ ‬الفنان‭ ‬العظيم‭ ‬الهولندي،‭ ‬فان‭ ‬جوخ‭ ‬لاخيه‭ ‬قبل‭ ‬انتحاره،‭ ‬وكيف‭ ‬قاده‭ ‬الحب‭ ‬للانتحار،‭ ‬ورسالة‭ ‬الاديب‭ ‬الروسي‭ ‬العظيم‭ ‬دوستويفيسكي‭ ‬لأخيه‭ ‬قبل‭ ‬محاولة‭ ‬إعدامه‭ ‬بأيام‭.‬

إنهما‭ ‬تحكيان‭ ‬اصطباغ‭ ‬صدق‭ ‬الأخوة‭ ‬على‭ ‬مسلخ‭ ‬الموت،‭ ‬وكيف‭ ‬يتحول‭ ‬الحب‭ ‬الاخوي‭ ‬ألى‭ ‬نبضَ‭ ‬آخر‭ ‬ساعة‭ ‬عند‭ ‬اقتراب‭ ‬الروح‭ ‬من‭ ‬العروج‭ ‬قبل‭ ‬التحافها‭ ‬برصاصة‭ ‬أو‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬خنجر‭. ‬بين‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الاستمتاع‭ ‬الممزوج‭ ‬باللذة‭ ‬والألم،‭ ‬كنت‭ ‬ملازما‭ ‬يوميا‭ ‬بقراءة‭ ‬نهج‭ ‬البلاغة،‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬الأيديولوجيات،‭ ‬كلما‭ ‬احتجت‭ ‬إلى‭ ‬عقاقير‭ ‬معرفية‭ ‬التجأت‭ ‬إلى‭ ‬صيدلية‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬“ع”‭. ‬الإمام‭ ‬يقول‭: (‬كن‭ ‬كما‭ ‬تكن،‭ ‬ولا‭ ‬تكن‭ ‬كما‭ ‬يكونون،‭ ‬ولا‭ ‬تقل‭ ‬ما‭ ‬تسمع‭ ‬ولا‭ ‬تسمع‭ ‬ما‭ ‬يقولون،‭ ‬وكما‭ ‬ولدت‭ ‬باكيا‭ ‬والناس‭ ‬حولك‭ ‬يضحكون،‭ ‬فمت‭ ‬ضاحكا‭ ‬والناس‭ ‬حولك‭ ‬يبكون‭)).‬

كل‭ ‬هذه‭ ‬النشوة‭ ‬المعرفية،‭ ‬سأسعى‭ ‬لأن‭ ‬أضعها‭ ‬في‭ (‬مولينكس‭) ‬الصحافة،‭ ‬وأخلطها‭ ‬بواقع‭ ‬وجع‭ ‬الناس،‭ ‬وفرحهم،‭ ‬وكيف‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نناقش‭ ‬القضايا‭ ‬الحيوية‭ ‬التي‭ ‬تمس‭ ‬الواقع‭ ‬ابتداء‭ ‬بتسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الملفات‭ ‬الإيجابية‭ ‬أو‭ ‬السلبية‭ ‬للوزارات،‭ ‬وبطريقة‭ ‬علمية‭ ‬معرفية،‭ ‬وبمنطق‭ ‬سوسيولوجي‭ ‬وسيكولوجي،‭ ‬لعلنا‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬نبضَ‭ ‬أرصفة‭ ‬لا‭ ‬يكسو‭ ‬بعضها‭ ‬إلا‭ ‬الغبار‭ ‬أو‭ ‬ستائر‭ ‬وردية‭ ‬لا‭ ‬يرقص‭ ‬عليها‭ ‬إلا‭ ‬عطر‭ ‬الترف‭. ‬اسمحوا‭ ‬لي‭ ‬البدأ‭ ‬في‭ ‬النقد،‭ ‬وأطرح‭ ‬آرائي‭ ‬بكل‭ ‬جرأة‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والدينية‭ ‬والسياسية،‭ ‬وما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالواقع‭ ‬من‭ ‬مخاض‭. ‬

قد‭ ‬أكون‭ ‬مزعجا‭ ‬أو‭ ‬مشاكسا‭ ‬أو‭ ‬صادما‭ ‬في‭ ‬الخطاب،‭ ‬لكني‭ ‬مؤمن‭ ‬بأن‭ ‬كسر‭ ‬التابو‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬نمارسه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬سنكون‭ ‬مجرد‭ ‬صدى‭. ‬خطاب‭ ‬الصدمة‭ ‬مارسته‭ ‬منذ‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬ومازلت‭ ‬لإيماني‭ ‬بالحرية‭ ‬والحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ولإيماني‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬النقدي‭ ‬في‭ ‬ازدياد‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭. ‬يقول‭ ‬أفلاطون‭: (‬لو‭ ‬أمطرت‭ ‬السماء‭ ‬حرية‭ .. ‬لرأيت‭ ‬بعض‭ ‬العبيد‭ ‬يحملون‭ ‬المظلات‭)).‬