إبينفرين التوتر مقابل دوبامين الرشوة

| د. ندى أحمد الحساوي

يقترن‭ ‬التوتّر‭ ‬والقلق‭ ‬اليومي‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭ ‬السلبية‭ ‬بالهروب‭ ‬التلقائي‭ ‬إلى‭ ‬اللذة‭ ‬المؤقتة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يوشك‭ ‬بعدها‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬التوتّر‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وقد‭ ‬أصبح‭ ‬ذلك‭ ‬وضعا‭ ‬طبيعيا‭ ‬لا‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬نورّثه‭ ‬للأجيال‭ ‬وننشّئ‭ ‬عليه‭ ‬أبناءنا،‭ ‬بدافع‭ ‬إمّا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التخلّص‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬تنشئتهم‭ ‬فنرغبهم‭ ‬باللذة،‭ ‬أو‭ ‬برغبة‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬ينفّذوا‭ ‬ما‭ ‬نريده‭ ‬نحن‭ ‬منهم‭ ‬وكأننا‭ ‬قد‭ ‬أخفقنا‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافنا،‭ ‬ونريد‭ ‬أبناءنا‭ ‬أن‭ ‬يصنعوا‭ ‬ما‭ ‬عجزنا‭ ‬عن‭ ‬تنفيذه،‭ ‬وكأنهم‭ ‬نحن،‭ ‬ونحن‭ ‬هم‭.. ‬طبعا‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬الجينات‭!‬

ولتبسيط‭ ‬المراد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬نلعب‭ ‬صغارا،‭ ‬كان‭ ‬اللعب‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬قيمة‭ ‬نمارسها‭ ‬بأشكال‭ ‬متعددة،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬لنا‭ ‬لعبة‭ ‬مفضّلة‭ ‬نلعبها‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ونستمتع‭ ‬بها،‭ ‬ونسعد‭ ‬برفقة‭ ‬صديق‭ ‬مفضّل‭ ‬لنا‭ ‬لأنه‭ ‬يشاركنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة،‭ ‬وقد‭ ‬يأتي‭ ‬أحد‭ ‬الوالدين‭ ‬ليطلب‭ ‬منا‭ ‬القيام‭ ‬بعمل‭ ‬أو‭ ‬مهمّة‭ ‬بالنيابة‭ ‬عنه،‭ ‬هي‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬ليست‭ ‬محببة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬ليست‭ ‬بأولوية‭ ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬منشغلون‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬لعب‭ ‬ومرح‭ ‬وقيمة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬فنشعر‭ ‬بالانزعاج‭ ‬والتوتر‭ ‬وعدم‭ ‬مطاوعة‭ ‬أجسادنا‭ ‬بأن‭ ‬نخرج‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬الممتع‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬المزعج،‭ ‬فيقوم‭ ‬الوالد‭ ‬برشوتنا‭ ‬لنقوم‭ ‬بما‭ ‬يريد‭ ‬إنجازه‭ ‬إما‭ ‬بإعطائنا‭ ‬مبلغا‭ ‬من‭ ‬المال،‭ ‬أو‭ ‬وعدا‭ ‬بالذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الملاهي‭ ‬أو‭ ‬شراء‭ ‬بوظة‭ ‬أو‭ ‬سكاكر‭!‬

وبشكل‭ ‬علمي،‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬بالضبط‭ ‬هو‭ ‬عند‭ ‬التنشئة‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬مرارا‭ ‬تصبح‭ ‬تلك‭ ‬التنشئة‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬مقابل‭ ‬اللذة‭ ‬جزءا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬برنامجنا‭ ‬العقلي،‭ ‬وعندما‭ ‬كنا‭ ‬ننزعج‭ ‬بالقيام‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬نحب‭ ‬فإن‭ ‬دماغنا‭ ‬يستجيب‭ ‬لهذا‭ ‬الشعور‭ ‬المزعج‭ ‬بإفراز‭ ‬هرمون‭ ‬الإبينفرين‭ ‬من‭ ‬الغدّتين‭ ‬الكظريتين،‭ ‬ذلك‭ ‬الهرمون‭ ‬المعبّر‭ ‬عن‭ ‬الألم،‭ ‬والذي‭ ‬قد‭ ‬يظهر‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬دموع،‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تأثيرات‭ ‬ذلك‭ ‬الهرمون‭ ‬من‭ ‬زيادة‭ ‬نبضات‭ ‬القلب‭ ‬ومعدل‭ ‬التنفس،‭ ‬وكذلك‭ ‬الانفعالات‭ ‬التي‭ ‬نخشى‭ ‬أن‭ ‬نظهرها‭ ‬من‭ ‬غضب،‭ ‬وخوف‭ ‬وشعور‭ ‬بالذنب‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬رفضنا‭ ‬الانصياع،‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬الانصياع‭! ‬وعندما‭ ‬يعرض‭ ‬الوالد‭ ‬رشوته‭ ‬المفضّلة‭ ‬التي‭ ‬عوّدنا‭ ‬عليها‭ ‬فإن‭ ‬الدماغ‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اللذّة‭ ‬بالقيام‭ ‬بذلك‭ ‬العمل،‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إفراز‭ ‬الدوبامين‭ (‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مادة‭ ‬الرغبة‭) ‬في‭ ‬مسار‭ ‬يمر‭ ‬على‭ ‬مراكز‭ ‬اللذة‭ ‬الحسيّة‭ ‬في‭ ‬الدماغ،‭ ‬فتشعرنا‭ ‬بالتحفيز‭ ‬للقيام‭ ‬بذلك‭ ‬العمل‭.‬

ذلك‭ ‬ما‭ ‬جبلنا‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬التنشئة‭ ‬وما‭ ‬نقوم‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬بشكل‭ ‬مكرّر‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ندري،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬عن‭ ‬ما‭ ‬نبدع‭ ‬فيه،‭ ‬وانشغالنا‭ ‬بما‭ ‬يجلب‭ ‬لنا‭ ‬هرمون‭ ‬التوتر‭ ‬الذي‭ ‬تخمد‭ ‬ألمه‭ ‬أدمغتنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬بالرشوة‭ ‬أو‭ ‬اللذة‭ ‬المؤقتة‭. ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬عندما‭ ‬نجبر‭ ‬أبناءنا‭ ‬الأعزاء‭ ‬على‭ ‬الصيام،‭ ‬والدراسة،‭ ‬والمهنة،‭ ‬والزواج،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬برمجنا‭ ‬عليه‭ ‬بلا‭ ‬لوم‭. ‬لنعي‭ ‬ذلك‭ ‬ولنبادر‭ ‬إلى‭ ‬المكافأة‭ ‬والإهداء‭ ‬بعد‭ ‬قيامهم‭ ‬بما‭ ‬يحبّون‭ ‬وبطريقتهم‭ ‬هم،‭ ‬بدل‭ ‬الرشوة‭ ‬بالقيام‭ ‬بما‭ ‬نريد‭ ‬نحن‭ ‬منهم،‭ ‬فليصوموا‭ ‬بحب‭ ‬وليدرسوا‭ ‬ويعملوا‭ ‬بما‭ ‬يحبون‭ ‬وليتزوجوا‭ ‬بمن‭ ‬يريدون‭ ‬هم،‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬لهم‭ ‬القرار،‭ ‬لأنها‭ ‬حياتهم‭ ‬هم‭ ‬لا‭ ‬حياتنا‭ ‬نحن،‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬الذات‭.‬