مسلسل “محمد علي رود”.. وكفاح الآباء والأجداد (2-2)

| عبدالنبي الشعلة

بالأمس‭ ‬أشرنا‭ ‬في‭ ‬وقفتنا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الثلاثينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماض‭ ‬شهد‭ ‬“محمد‭ ‬علي‭ ‬رود”‭ ‬أو‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬صولات‭ ‬وجولات‭ ‬التجار‭ ‬الكويتيين‭ ‬والخليجيين‭ ‬وانطلاقهم‭ ‬فيه‭ ‬ومنه‭ ‬إلى‭ ‬باقي‭ ‬المدن‭ ‬والمراكز‭ ‬التجارية‭ ‬الهندية‭ ‬والموانئ‭ ‬الخليجية‭ ‬وبعض‭ ‬الموانئ‭ ‬الأفريقية،‭ ‬وظل‭ ‬وجودهم‭ ‬وحضورهم‭ ‬فيه‭ ‬قويًا‭ ‬بارزًا‭ ‬نافذًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أخذ‭ ‬في‭ ‬الانحسار‭ ‬تدريجيًا‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬الخمسينات‭ ‬أو‭ ‬بداية‭ ‬الستينات‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بدأت‭ ‬ثمرات‭ ‬النفط‭ ‬الكويتي‭ ‬تتساقط‭ ‬بشكل‭ ‬ملموس‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الكويتي‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الخمسينات؛‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬شحنة‭ ‬منه‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬تصديرها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1946،‭ ‬كما‭ ‬إن‭ ‬الكويت‭ ‬قد‭ ‬نالت‭ ‬استقلالها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1961؛‭ ‬فبدأت‭ ‬الطيور‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬أوكارها‭ ‬للمساهمة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬المستقلة‭ ‬الفتية،‭ ‬ودعم‭ ‬اقتصادها‭ ‬مسلحين‭ ‬بالخبرة‭ ‬التي‭ ‬اكتسبوها‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬وفي‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬بالتحديد‭.‬

وقد‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬بومباي‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1969،‭ ‬وكنت‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬الجامعي‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬أمتارًا‭ ‬عن‭ ‬“محمد‭ ‬علي‭ ‬رود”،‭ ‬ومنذ‭ ‬وصولي‭ ‬وخلال‭ ‬الأربع‭ ‬سنوات‭ ‬اللاحقة‭ ‬أصبحت‭ ‬أتجول‭ ‬يوميًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬العريق‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬التاريخ‭ ‬يعبر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أروقته‭ ‬وعلى‭ ‬أرصفته‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬‮٢٥٠‬‭ ‬عامًا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بناه‭ ‬الإنجليز‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬ليكون‭ ‬“شانزاليزيه”‭ ‬بومباي،‭ ‬محاطًا‭ ‬على‭ ‬جانبيه‭ ‬بمبانٍ‭ ‬تجارية‭ ‬وسكنية‭ ‬جميلة‭ ‬باهرة‭ ‬أخذت‭ ‬معاول‭ ‬السنين‭ ‬وأيادي‭ ‬الإهمال‭ ‬تمتد‭ ‬وتسطو‭ ‬عليها‭ ‬لتنال‭ ‬من‭ ‬رونقها‭ ‬وروعة‭ ‬تصاميمها‭ ‬المعمارية‭ ‬الهندسية‭ ‬الممتزجة‭ ‬بين‭ ‬التصاميم‭ ‬المغولية‭ ‬الهندية‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وتصاميم‭ ‬“طراز‭ ‬الديكو”‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وفنَي‭ ‬المعمار‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬والقوطي‭ ‬المُجدَدَين‭ ‬اللذَين‭ ‬زخرت‭ ‬بهما‭ ‬شوارع‭ ‬باريس‭ ‬وروما‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وبداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

‭ ‬ويقع‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬مدينة‭ ‬مومباي‭ ‬العاصمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للهند،‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬يقطن‭ ‬أغلبها‭ ‬سكان‭ ‬من‭ ‬الهنود‭ ‬المسلمين‭ ‬الذين‭ ‬بنوا‭ ‬حولها‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الجوامع‭ ‬والمساجد‭ ‬الكبيرة‭ ‬بتصاميم‭ ‬هندسية‭ ‬تضاهي‭ ‬تصاميم‭ ‬مبانيه؛‭ ‬منها‭ ‬مسجد‭ ‬المنارة‭ ‬ومسجد‭ ‬زكريا‭ ‬وغيرهما،‭ ‬وتتفرع‭ ‬منه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأزقة‭ ‬والطرقات‭ ‬من‭ ‬أشهرها‭ ‬“عبدالرحمن‭ ‬ستريت”‭ ‬الذي‭ ‬سمي‭ ‬باسم‭ ‬التاجر‭ ‬النجدي‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬المنيع‭ ‬من‭ ‬بلدة‭ ‬“شقرا”‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬بتجارته‭ ‬للخيول‭ ‬العربية‭ ‬الأصيلة‭.‬

وكأي‭ ‬انسان‭ ‬خليجي‭ ‬فإنني‭ ‬كنت‭ ‬أحس‭ ‬بالزهو‭ ‬وأنا‭ ‬أتجول‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬لأكتشف‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬نفحات‭ ‬الماضي‭ ‬وبقايا‭ ‬تراث‭ ‬التجار‭ ‬الكويتيين‭ ‬والخليجيين،‭ ‬وما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬مآثرهم‭ ‬وآثارهم،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬أنفاسهم‭ ‬وأصداء‭ ‬أصواتهم‭ ‬ورنين‭ ‬فناجين‭ ‬القهوة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يحتسونها‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬مقاهي‭ ‬ومطاعم‭ ‬وزوايا‭ ‬ومتاجر‭ ‬ذلك‭ ‬الشارع‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬كنت‭ ‬أعبر‭ ‬سوق‭ ‬بومباي‭ ‬المركزي‭ ‬الذي‭ ‬بناه‭ ‬آرثر‭ ‬كروفورد‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬بلدية‭ ‬للمدينة‭ ‬فسمي‭ ‬“كروفورد‭ ‬ماركت”‭ ‬لأرى‭ ‬أمامي‭ ‬مجمع‭ ‬“سيتارام”‭ ‬الشهير‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬مكاتب‭ ‬الحاج‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬زينل‭ ‬علي‭ ‬رضا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عميد‭ ‬الجالية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الهند،‭ ‬ومجمع‭ ‬“سيتارام”‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العمارات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬مكاتب‭ ‬تجار‭ ‬كويتيين‭ ‬وسعوديين،‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬أزور‭ ‬المرحوم‭ ‬أحمد‭ ‬القاضي‭ (‬أبو‭ ‬خالد‭) ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجمع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يزاول‭ ‬منه‭ ‬التجارة‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬“شركة‭ ‬حمد‭ ‬العلي‭ ‬القاضي”‭.‬

كان‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬أو‭ ‬“محمد‭ ‬علي‭ ‬رود”‭ ‬يعج‭ ‬بالحركة‭ ‬والصخب‭ ‬والضجيج‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة،‭ ‬وكان‭ ‬يضم‭ ‬المتاجر‭ ‬والمكاتب‭ ‬القديمة‭ ‬للتجار‭ ‬الكويتيين‭ ‬والخليجيين‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬منهم‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬ممن‭ ‬لم‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬تصفية‭ ‬أعمالهم‭ ‬أو‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬ارتباطاتهم‭ ‬الوثيقة‭ ‬بهذه‭ ‬المدينة‭. ‬فمن‭ ‬البيوتات‭ ‬أو‭ ‬الأسماء‭ ‬أو‭ ‬العناوين‭ ‬الكويتية‭ ‬اللامعة‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬الا‭ ‬نفر‭ ‬قليل‭ ‬كان‭ ‬أبرزهم‭ ‬بيت‭ ‬“العيسى”‭ ‬وعميده‭ ‬أبو‭ ‬فيصل؛‭ ‬الحاج‭ ‬عيسى‭ ‬العيسى‭ ‬القناعي‭ ‬أو‭ ‬الجناعي،‭ ‬الذي‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬بومباي‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يمارس‭ ‬التجارة‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1946‭ ‬من‭ ‬مكتبه‭ ‬رقم‭ ‬102‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬تحت‭ ‬الاسم‭ ‬التجاري‭ ‬‮«‬مكتب‭ ‬حسين‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬وإخوانه‮»‬‭. ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬مكتبًا‭ ‬واسعًا‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قاعة‭ ‬كبيرة‭ ‬مستطيلة‭ ‬مفتوحة،‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬أبوفيصل‭ ‬على‭ ‬طاولته‭ ‬الخشبية‭ ‬القديمة،‭ ‬وأمامه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الكراسي‭ ‬لجلوس‭ ‬زواره‭ ‬وضيوفه‭ ‬وزبائنه‭ ‬وعملائه،‭ ‬وقد‭ ‬أغلق‭ ‬نهاية‭ ‬القاعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستخدم‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬كمضيف‭ ‬لإقامة‭ ‬زوار‭ ‬بومباي‭ ‬من‭ ‬عملاء‭ ‬الشركة‭ ‬من‭ ‬الكويتيين‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الخليجيين‭.‬

كان‭ ‬أبوفيصل؛‭ ‬عيسى‭ ‬الجناعي‭ ‬إنسانا‭ ‬وقورا‭ ‬رزينا‭ ‬ودودا،‭ ‬يحبه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يتعرف‭ ‬عليه‭ ‬ويتعامل‭ ‬معه،‭ ‬ورأيته‭ ‬كريم‭ ‬نفس‭ ‬سخيا‭ ‬يحب‭ ‬الخير،‭ ‬دمث‭ ‬الأخلاق‭ ‬والمعشر،‭ ‬ورجل‭ ‬أعمال‭ ‬صادقا‭ ‬أمينا‭ ‬يحترمه‭ ‬ويجله‭ ‬ويثق‭ ‬به‭ ‬الجميع،‭ ‬وينتمي‭ ‬إلى‭ ‬جماعة‭ ‬أو‭ ‬عائلة‭ ‬“القناعات”‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الأسر‭ ‬الكويتية‭ ‬شهرة،‭ ‬وكان‭ ‬يعلق‭ ‬خلفه‭ ‬صورة‭ ‬كبيرة‭ ‬لوالده‭ ‬المثقف‭ ‬وأحد‭ ‬أعلام‭ ‬التنوير‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬العلامة‭ ‬الشيخ‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬القناعي‭ ‬مؤسس‭ ‬مدرسة‭ ‬المباركية‭ ‬النظامية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1912‭. ‬

وأثناء‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬بومباي،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تعرفت‭ ‬عليه،‭ ‬كنت‭ ‬أحرص‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬على‭ ‬التردد‭ ‬على‭ ‬مكتبه‭ ‬ولقائه‭ ‬لتأدية‭ ‬واجب‭ ‬التحية‭ ‬والسلام،‭ ‬والاستفادة‭ ‬مما‭ ‬يدور‭ ‬ويقال‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكتب‭ ‬القريب‭ ‬في‭ ‬روحه‭ ‬من‭ ‬الديوانيات‭ ‬الكويتية،‭ ‬ولتناول‭ ‬التمر‭ ‬والقهوة‭ ‬العربية‭ ‬والاستماع‭ ‬إلى‭ ‬توجيهاته‭ ‬ونصائحه‭ ‬وذكرياته،‭ ‬وإلى‭ ‬مساجلات‭ ‬ومساومات‭ ‬التجار‭ ‬الهنود‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتعاملون‭ ‬معه،‭ ‬و‭ ‬إلى‭ ‬حكايات‭ ‬وأحاديث‭ ‬التجار‭ ‬الكويتيين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يزورونه‭ ‬لإنجاز‭ ‬الصفقات‭ ‬التجارية،‭ ‬وإلى‭ ‬ردوده‭ ‬على‭ ‬المكالمات‭ ‬الهاتفية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترده‭ ‬من‭ ‬الكويت،‭ ‬وإلى‭ ‬فحوى‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬تصله‭ ‬ويناقشها‭ ‬بشكل‭ ‬مفتوح‭ ‬مع‭ ‬مساعديه‭ ‬من‭ ‬الهنود،‭ ‬وكنت‭ ‬انبهر‭ ‬واستمتع‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬اسمعه‭ ‬يتحدث‭ ‬الهندية‭ ‬بطلاقة‭ ‬وبلكنة‭ ‬كويتية‭ ‬جميلة‭.‬

في‭ ‬مكتب‭ ‬عيسى‭ ‬الجناعي‭ ‬ومكتب‭ ‬أحمد‭ ‬القاضي‭ ‬وفي‭ ‬المدرسة‭ ‬العربية‭ ‬وفي‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬ومقاهيه‭ ‬كانت‭ ‬ذاكرة‭ ‬الناس،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الستينات‭ ‬وبداية‭ ‬السبعينات،‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬رطبة‭ ‬طرية‭ ‬مشبعة‭ ‬بصور‭ ‬وذكريات‭ ‬الماضي‭ ‬القريب،‭ ‬فسمعت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وسمعت‭ ‬عن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الشارع‭ ‬للتجار‭ ‬الخليجيين‭ ‬وبين‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضا،‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬القصص‭ ‬المتعلقة‭ ‬ببيع‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬وتهريب‭ ‬الذهب‭ ‬أقرب‭ ‬بل‭ ‬أغرب‭ ‬من‭ ‬الخيال‭.‬

وسمعت‭ ‬أسماءً‭ ‬رنانة‭ ‬ظلت‭ ‬تتردد‭ ‬على‭ ‬ألسن‭ ‬الناس،‭ ‬والتقيت‭ ‬بعدد‭ ‬منها،‭ ‬أسماء‭ ‬عوائل‭ ‬وبيوتات‭ ‬تجارية‭ ‬خليجية‭ ‬معروفة‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬سمعة‭ ‬ومكانة‭ ‬مرموقة‭ ‬ساطعة‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬والميادين‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬على‭ ‬ضفتي‭ ‬البحر‭ ‬العربي؛‭ ‬مثل‭ ‬الإبراهيم‭ ‬والقناعي‭ ‬والشايع‭ ‬والصقر‭ ‬والعبدالرزاق‭ ‬والمرزوق‭ ‬والصانع‭ ‬والساير‭ ‬والغانم‭ ‬والخرافي‭ ‬والهارون‭ ‬والمشاري‭ ‬والمطيري‭ ‬والثنيان‭ ‬والشاهين‭ ‬والفليج‭ ‬والخالد‭ ‬والحميضي‭ ‬والجسار‭. ‬ومن‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬وباقي‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية‭ ‬عوائل‭ ‬القاضي‭ ‬والبسام‭ ‬والقصيبي‭ ‬وزينل‭ ‬والفوزان‭ ‬والفضل‭ ‬والزياني‭ ‬وفخرو‭ ‬وكانو‭ ‬والمناعي‭ ‬ومطر‭ ‬والعريض‭ ‬والمديفع‭ ‬والمدفع‭ ‬والبستكي‭ ‬والمنديل‭ ‬ومصطفى‭ ‬بن‭ ‬عبداللطيف‭ ‬ولوتاه‭ ‬والنابودة‭ ‬والماجد‭ ‬وآل‭ ‬ثاني‭ ‬والسلطان‭ ‬والهجرس،‭ ‬وعشرات‭ ‬غيرهم‭ ‬لا‭ ‬تستطع‭ ‬ذاكرتي‭ ‬الآن‭ ‬استرجاع‭ ‬اسمائهم‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأيام،

وما‭ ‬يزال‭ ‬مبنى‭ ‬القنصلية‭ ‬الكويتية‭ ‬في‭ ‬بومباي،‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬افتتاحه‭ ‬بعد‭ ‬استقلال‭ ‬الكويت،‭ ‬يضم‭ ‬قسما‭ ‬خاصا‭ ‬بـ”المدرسة‭ ‬العربية”‭ ‬التي‭ ‬اسستها‭ ‬دولة‭ ‬الكويت‭ ‬بأمر‭ ‬من‭ ‬أميرها‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬السالم‭ ‬الصباح؛‭ ‬لتدريس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لأبناء‭ ‬السلك‭ ‬القنصلي‭ ‬العربي‭ ‬والجالية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬بومباي‭. ‬وفي‭ ‬مساء‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬وحتى‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينات‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬يلتقي‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬بومباي‭ ‬من‭ ‬التجار‭ ‬الخليجيين‭ ‬والعرب‭ ‬لشرب‭ ‬القهوة‭ ‬وقراءة‭ ‬الصحف‭ ‬العربية‭ ‬وتبادل‭ ‬الإحاديث‭ ‬واسترجاع‭ ‬الذكريات‭ ‬الجميلة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬كر‭ ‬الأيام‭ ‬وفرها‭ ‬وإقبال‭ ‬الليالي‭ ‬وإدبارها‭ ‬أخذت‭ ‬ذاكرة‭ ‬هذا‭ ‬النفر‭ ‬القليل‭ ‬في‭ ‬الاضمحلال‭ ‬والضمور،‭ ‬وأعمارهم‭ ‬في‭ ‬التقدم‭ ‬زحفًا‭ ‬نحو‭ ‬القدر‭ ‬المحتوم،‭ ‬فصار‭ ‬عددهم‭ ‬يتناقص‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اختارهم‭ ‬الله‭ ‬واحد‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬الوارف‭ ‬الظل‭ ‬الكريم‭.‬

فرحمهم‭ ‬الله‭ ‬جميعًا،‭ ‬وشكرًا‭ ‬لمخرجي‭ ‬ومنتجي‭ ‬ومنفذي‭ ‬مسلسل‭ ‬“محمد‭ ‬علي‭ ‬رود”،‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬الرائع‭ ‬الذي‭ ‬أحيا‭ ‬الذاكرة‭ ‬وانعش‭ ‬الوجدان،‭ ‬ونتطلع‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬الهادفة‭.‬