وَخْـزَةُ حُب

لمن يتباهون بعدد الركعات!

| د. زهرة حرم

مما‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك‭ ‬فرصة‭ ‬إلهية‭ ‬ذهبية‭ ‬لأمة‭ ‬المسلمين‭ ‬كافة؛‭ ‬يحمل‭ ‬لهم‭ ‬–‭ ‬فيما‭ ‬يحمل‭ - ‬رسائل‭ ‬ودعوات‭ ‬روحانية،‭ ‬تناديهم‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬فطرتهم‭ ‬الإنسانية‭ ‬السليمة،‭ ‬ومغالبة‭ ‬نوازع‭ ‬السوء،‭ ‬وتغليب‭ ‬الخير؛‭ ‬لذلك‭ ‬فهو‭ ‬شهر‭ ‬موسوم‭ ‬بالعطاء،‭ ‬والبركة،‭ ‬والرحمة؛‭ ‬تجد‭ ‬القلوب‭ ‬فيه‭ ‬لينة‭ ‬ورخوة،‭ ‬تعيش‭ ‬السكينة‭ ‬والهدوء‭ ‬النفسي،‭ ‬لأنها‭ ‬تتوجه‭ ‬جميعها‭ ‬–‭ ‬بقصد‭ ‬ونية‭ ‬مُسبقين‭ ‬–‭ ‬لإنجاح‭ ‬صيامها؛‭ ‬فتحسن‭ ‬معاملاتها،‭ ‬وتُجهز‭ ‬عدتها‭ ‬العبادية‭ ‬من‭ ‬صلوات‭ ‬وأدعية،‭ ‬وتراها‭ ‬في‭ ‬حرص‭ ‬شديد‭ ‬على‭ ‬الإكثار‭ ‬منها،‭ ‬بل‭ ‬تختم‭ ‬القرآن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬خلال‭ ‬الشهر،‭ ‬وهنا‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجزئية‭ ‬بالذات‭ ‬–‭ ‬وقفتنا‭! ‬قد‭ ‬يقول‭ ‬البعض‭: ‬هذا‭ ‬مدهش،‭ ‬وفيه‭ ‬إيمان‭ ‬بيّن،‭ ‬وطاعة‭ ‬شديدة،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نختلف‭ ‬في‭ ‬النوايا‭ ‬الطيبة،‭ ‬التي‭ ‬تقصد‭ ‬وجه‭ ‬الكريم،‭ ‬وأجره‭ ‬وثوابه،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬يحرم‭ ‬المرء‭ ‬منا‭ ‬من‭ ‬التفكير،‭ ‬والتأمل،‭ ‬والتدبر،‭ ‬بل‭ ‬التذوق‭.‬

إن‭ ‬إنعاش‭ ‬القلوب،‭ ‬وتجديد‭ ‬العهود‭ ‬الإلهية،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الحالة‭ ‬الروحانية‭ ‬وتقويتها،‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬الأدعية،‭ ‬ولا‭ ‬عشرات‭ ‬الركعات،‭ ‬أو‭ ‬الختمات‭ ‬القرآنية‭ ‬المتكررة؛‭ ‬إنها‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عقل‭ ‬يعي‭ ‬كل‭ ‬حرف‭ ‬صغير،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العبادات،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬والواحد‭ ‬منا،‭ ‬في‭ ‬لهاث‭... ‬كأنه‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬سريع،‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬ينجز‭ ‬عشرات‭ ‬المهام،‭ ‬في‭ ‬مدة‭ ‬قصيرة،‭ ‬ثم‭ ‬يصفق‭ ‬لنفسه‭ ‬أنْ‭ ‬أدى‭ ‬ما‭ ‬عليه‭ ‬وزيادة‭! ‬والحقيقة‭ ‬أنه‭ ‬اشتغل‭ ‬محاسبًا‭ ‬يعد‭ ‬الأرقام،‭ ‬ويقسمها،‭ ‬ويجمعها‭! ‬وإذْ‭ ‬ذاك؛‭ ‬أغفل‭ ‬ما‭ ‬وراءها‭ ‬من‭ ‬قِـيَّم،‭ ‬وأغراض،‭ ‬ترتقي‭ ‬بروحه،‭ ‬وترفعها‭ ‬درجات‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬التركيز،‭ ‬وتسليط‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نقرأ‭ ‬أو‭ ‬نردد‭ ‬من‭ ‬صلوات،‭ ‬فإن‭ ‬الجري‭ ‬–‭ ‬بغرض‭ ‬الجري‭ ‬نفسه‭ ‬–‭ ‬سيُفقدنا‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬التعلم،‭ ‬والكشف‭ ‬عمّا‭ ‬ورائيات‭ ‬هذه‭ ‬العبادات‭ ‬السامية،‭ ‬وسيخرجنا‭ ‬صفر‭ ‬اليدين،‭ ‬بلا‭ ‬لذة‭ ‬روحية‭ ‬حقيقية،‭ ‬وبذلك‭ ‬نكون‭ ‬خسرنا‭ ‬ما‭ ‬ظننا‭ ‬أننا‭ ‬كسبناه‭!‬

يحتاج‭ ‬مجتمعنا‭ ‬المسلم‭ ‬إلى‭ ‬عبادة‭ ‬تتجاوز‭ ‬الكم‭ ‬إلى‭ ‬الكيف،‭ ‬إلى‭ ‬الارتقاء‭ ‬بالعبادة‭ ‬فكريًا‭ ‬وعقليًا،‭ ‬وهذا‭ ‬يتطلب‭ ‬بذل‭ ‬جهد،‭ ‬وإعمال‭ ‬عقل،‭ ‬ووقفات‭ ‬بحث‭ ‬وتأمل‭ ‬وحوار،‭ ‬ومناقشة‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الفردي‭ ‬والجماعي‭ - ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك؛‭ ‬فسنبقى‭ ‬نتفاخر‭ ‬بكم‭ ‬ركعنا،‭ ‬وكم‭ ‬ختمنا‭! ‬وسيظل‭ ‬المحتوى‭ ‬فارغًا،‭ ‬لا‭ ‬يُقدم‭ ‬ولا‭ ‬يُؤخر‭! ‬ألا‭ ‬ترون‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬تتباهى‭ ‬بكم‭ ‬حفظ‭ ‬أفرادها‭ ‬من‭ ‬قرآن،‭ ‬وتُدهَش‭ ‬ممن‭ ‬يتجاوز‭ ‬حفظ‭ ‬السور‭ ‬إلى‭ ‬أرقام‭ ‬الصفحات،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬ندر‭ ‬أن‭ ‬خرجت‭ ‬علينا‭ ‬مسابقات‭ ‬تهتم‭ ‬بالفهم،‭ ‬وتتجاوز‭ ‬التفسير‭ ‬إلى‭ ‬التدبر،‭ ‬وقياس‭ ‬مستوى‭ ‬الوعي‭. ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬كريم؛‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬سفرتك‭ ‬عامرة‭ ‬بالملذات،‭ ‬ولا‭ ‬لأنك‭ ‬فاتح‭ ‬جيبك‭ ‬للآخرين‭ ‬تكرّمًا‭! ‬إنه‭ ‬كذلك؛‭ ‬لأن‭ ‬المولى‭ ‬أكرمك‭ ‬فيه‭ ‬بقلب‭ ‬منفتح‭ ‬للخير،‭ ‬وعقل‭ ‬مُستعد‭ ‬جاهز‭ ‬للتدبر،‭ ‬فلا‭ ‬تخسر‭ ‬الكيف‭ ‬لصالح‭ ‬كم‭ ‬زائف‭.‬