ستنتصر البشرية وستعود إلى قاعدة القيم الرزينة

| عبدالنبي الشعلة

كان‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬صدمة،‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬يوقظه‭ ‬ويهز‭ ‬ضميره؛‭ ‬فقد‭ ‬بلغ‭ ‬السيل‭ ‬الزُبى‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬انهزام‭ ‬النظام‭ ‬الاشتراكي‭ ‬بنظرياته‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬وغَلَبَةْ‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬بأدواته‭ ‬وأساليبه‭ ‬الوحشية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬انعطاف‭ ‬وتحول‭ ‬خطير‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬والمعايير‭ ‬الإنسانية‭ ‬والأخلاقية‭. ‬وخذ‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭: ‬مطربة‭ ‬خليجية‭ ‬كانت‭ ‬مغمورة‭ ‬حتى‭ ‬عهد‭ ‬ليس‭ ‬ببعيد‭ ‬جدًا،‭ ‬طفحت‭ ‬وقفزت‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة،‭ ‬واعتادت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تستعرض‭ ‬باستعلاء‭ ‬واستفزاز‭ ‬في‭ ‬طائرتها‭ ‬الخاصة‭ ‬ما‭ ‬تكتزه‭ ‬من‭ ‬أموال،‭ ‬وما‭ ‬تقتنيه‭ ‬من‭ ‬أثمن‭ ‬وأنفس‭ ‬الحلي‭ ‬والمجوهرات،‭ ‬وما‭ ‬تملكه‭ ‬من‭ ‬سيارات‭ ‬فارهة‭ ‬وأطيان‭ ‬وفلل‭ ‬وشقق‭ ‬فاخرة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬وما‭ ‬تنفقه‭ ‬على‭ ‬رحلاتها‭ ‬وعطلها‭ ‬وعلى‭ ‬تصميم‭ ‬وشراء‭ ‬الفساتين‭ ‬والإكسسوارات‭ ‬والعطور‭ ‬ومستحضرات‭ ‬التجميل،‭ ‬وما‭ ‬تنفقه‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬الجراحين‭ ‬الذين‭ ‬يجرون‭ ‬عمليات‭ ‬تغيير‭ ‬ملامح‭ ‬الوجه‭ ‬وتقاطيع‭ ‬الجسم‭ (‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬عمليات‭ ‬التجميل؛‭ ‬لأن‭ ‬العطار‭ ‬لا‭ ‬يُعيد‭ ‬أو‭ ‬يُصلح‭ ‬ما‭ ‬أكله‭ ‬أو‭ ‬أفسده‭ ‬الدهر‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬تتمتع‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬المطربة‭ ‬من‭ ‬حظوة‭ ‬ومكانة‭ ‬وشهرة‭ ‬واسعة‭. ‬ولا‭ ‬تنحصر‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬منتشرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬بينما‭ ‬أكبر‭ ‬وأشهر‭ ‬دكتور‭ ‬أو‭ ‬بروفيسور‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬يفني‭ ‬نصف‭ ‬عمره‭ ‬ويقضيه‭ ‬في‭ ‬التحصيل‭ ‬العلمي‭ ‬أولًا‭ ‬ثم‭ ‬يباشر‭ ‬بإحراق‭ ‬الباقي‭ ‬من‭ ‬شمعة‭ ‬عمره‭ ‬متفانيًا‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬وإعداد‭ ‬وتهيئة‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة؛‭ ‬ولكنه‭ ‬بالكاد‭ ‬يستطيع‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬أن‭ ‬يُكون‭ ‬أسرة‭ ‬ويبني‭ ‬بيتًا‭ ‬لائقًا‭ ‬له‭ ‬ولأفراد‭ ‬أسرته‭ ‬ويضمن‭ ‬لأبنائه‭ ‬التعليم‭ ‬الجيد،‭ ‬والحال‭ ‬كذلك‭ ‬بالنسبة‭ ‬لكبار‭ ‬الأطباء‭ ‬والجراحين‭ ‬والمهندسين‭ ‬والمحامين‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬المهنيين‭ ‬والمتخصصين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يُطلق‭ ‬عليهم‭ ‬“نجوم”،‭ ‬والذين‭ ‬يعملون‭ ‬ويكدحون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زاوية‭ ‬من‭ ‬المعمورة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ورقيها،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬توفير‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬الكريم‭ ‬لهم‭ ‬ولأسرهم‭.‬

وقد‭ ‬نُقِلَ‭ ‬لي،‭ ‬والعهدة‭ ‬على‭ ‬الناقل،‭ ‬أن‭ ‬مديرة‭ ‬مدرسة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬حملة‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬جارتها‭ ‬خريجة‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬أصبحت‭ ‬“فاشانستا”‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انخرطت‭ ‬في‭ ‬مهنة‭ ‬جديدة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميها‭ ‬مهنة‭ ‬“الفاشانستنة”،‭ ‬وأن‭ ‬دخلها‭ ‬الشهري‭ ‬أصبح‭ ‬يفوق‭ ‬مجموع‭ ‬المرتبات‭ ‬الشهرية‭ ‬للمديرة‭ ‬وكل‭ ‬المدرسات‭ ‬والمشرفات‭ ‬والعاملات‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬مجتمعات،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭ ‬توفر‭ ‬مزايا‭ ‬ومنافع‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬توفر‭ ‬مهنة‭ ‬التدريس‭ ‬أيًا‭ ‬منها‭.‬

وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬فحدث‭ ‬ولا‭ ‬حرج،‭ ‬فكم‭ ‬مطرب،‭ ‬وكم‭ ‬راقصة،‭ ‬وكم‭ ‬فاشانستا،‭ ‬وكم‭ ‬ممثلة،‭ ‬وكم‭ ‬لاعب‭ ‬كرة‭ ‬قدم،‭ ‬وكم‭ ‬مقدم‭ ‬برامج،‭ ‬أصبحوا‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬الأثرياء‭ ‬والمليونيرات؛‭ ‬وقارنهم‭ ‬بعدد‭ ‬الأثرياء‭ ‬والمليونيرات‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬أو‭ ‬المخترعين‭ ‬أو‭ ‬المفكرين‭ ‬أو‭ ‬الأدباء‭.‬

واذهب‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬شارع‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬عاصمة‭ ‬من‭ ‬عواصم‭ ‬العالم‭ ‬واسأل‭ ‬عن‭ ‬أسماء‭ ‬أكبر‭ ‬وأشهر‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬مطربين‭ ‬أو‭ ‬لاعبي‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وعن‭ ‬أكبر‭ ‬وأشهر‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬العلماء‭ ‬أو‭ ‬المخترعين‭ ‬أو‭ ‬المفكرين‭ ‬في‭ ‬العالم؛‭ ‬فستجد‭ ‬أن‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬الإجابة‭ ‬الصحيحة‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬الأول‭ ‬أكثر‭ ‬بفارق‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬الإجابة‭ ‬الصحيحة‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬الثاني‭.‬

ولتوضيح‭ ‬الصورة‭ ‬أكثر‭ ‬فإن‭ ‬لاعب‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬الأرجنتيني‭ ‬ليونيل‭ ‬ميسي‭ ‬الذي‭ ‬يلعب‭ ‬مع‭ ‬فريق‭ ‬برشلونة‭ ‬الأسباني‭ ‬يتقاضى‭ ‬أجرًا‭ ‬سنويًا‭ ‬قدره‭ ‬40‭ ‬مليون‭ ‬يورو‭ ‬عدًا‭ ‬ونقدًا،‭ ‬وأن‭ ‬اللاعب‭ ‬البرتغالي‭ ‬كريستيانو‭ ‬رونالدو‭ ‬الذي‭ ‬يلعب‭ ‬مع‭ ‬فريق‭ ‬يوفنتوس‭ ‬الإيطالي‭ ‬يتقاضى‭ ‬أجرًا‭ ‬سنويًا‭ ‬قدره‭ ‬31‭ ‬مليون‭ ‬يورو،‭ ‬كذلك‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬للاعب‭ ‬البرازيلي‭ ‬نيمار‭ ‬دا‭ ‬سيلفا‭ ‬لاعب‭ ‬فريق‭ ‬باريس‭ ‬سان‭ ‬جيرمان‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬يتقاضى‭ ‬30‭ ‬مليون‭ ‬يورو‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬وغيرهم،‭ ‬بينما‭ ‬القيمة‭ ‬النقدية‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬المشهورة‭ ‬والمرموقة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬مليون‭ ‬يورو‭ ‬فقط،‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭ ‬الفائزون‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬الفطاحل‭ ‬والنابغين‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والآداب‭ ‬والطب‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والمساهمين‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬السلام،‭ ‬وإذا‭ ‬حصل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬على‭ ‬الجائزة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬نفسه‭ ‬يتم‭ ‬تقسيم‭ ‬المبلغ‭ ‬عليهم‭ ‬ولا‭ ‬يشترط‭ ‬أن‭ ‬يقسم‭ ‬بالتساوي،‭ ‬هكذا‭ ‬اختلت‭ ‬الموازين‭ ‬وانقلبت‭ ‬المقاييس‭ ‬والمعايير‭ ‬عند‭ ‬البشر‭.‬

هذه‭ ‬ليست‭ ‬محاولة‭ ‬للازدراء‭ ‬أو‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬ومكانة‭ ‬وقيمة‭ ‬الفن‭ ‬والرياضة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬التفوق‭ ‬والإبداع‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الميادين‭ ‬والمجالات،‭ ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقال،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬أفرط‭ ‬وتمادى‭ ‬في‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬القيم‭ ‬والمعايير‭ ‬وترتيب‭ ‬أولوياتها،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬وتكوين‭ ‬مجتمعات‭ ‬لماعة‭ ‬براقة‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬أو‭ ‬بالمظهر،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الجوهر‭ ‬هي‭ ‬خاوية‭ ‬هشة‭ ‬مفرغة‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭ ‬ومن‭ ‬روح‭ ‬العطاء‭ ‬الحقيقي‭ ‬ومن‭ ‬مضامين‭ ‬العلم‭ ‬والثقافة‭ ‬والمعرفة،‭ ‬فهل‭ ‬جاء‭ ‬كورونا،‭ ‬ذلك‭ ‬الفيروس‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة،‭ ‬ليصلح‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الخلل؟

سيتمكن‭ ‬العالم‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬شك،‭ ‬إن‭ ‬عاجلًا‭ ‬أو‭ ‬آجلًا،‭ ‬من‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬وهزيمته،‭ ‬وستستيقظ‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬غفوتها‭ ‬لتدرك‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المفاهيم‭ ‬والقيم‭ ‬والمعايير‭ ‬والممارسات‭ ‬الرزينة،‭ ‬وسيحافظ‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬بعد‭ ‬ترويضه‭ ‬وتقليم‭ ‬أظافره‭ ‬ومخالبه‭ ‬وحقنه‭ ‬بالمزيد‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬ندحر‭ ‬كورونا‭ ‬بإذن‭ ‬الله؛‭ ‬سنتعلم‭ ‬الدرس‭ ‬ومنه‭ ‬سنستخلص‭ ‬العبر،‭ ‬وسيعود‭ ‬للفن‭ ‬سموه‭ ‬ورونقه‭ ‬وبهاؤه،‭ ‬وستختفي‭ ‬الأفواه‭ ‬النهمة‭ ‬المتطفلة‭ ‬على‭ ‬موائده،‭ ‬وستصبح‭ ‬مدرجات‭ ‬الجامعات‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬مدرجات‭ ‬ملاعب‭ ‬الكرة‭ ‬وحلبات‭ ‬السباق،‭ ‬ولن‭ ‬يُدفع‭ ‬للاعب‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬40‭ ‬أو‭ ‬31‭ ‬مليون‭ ‬يورو‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المبالغ‭ ‬وأضعافها‭ ‬ستُنفق‭ ‬وستدفع‭ ‬للعلماء‭ ‬والأطباء‭ ‬والمعلمين‭ ‬وللعاملين‭ ‬بصمت‭ ‬في‭ ‬مختبرات‭ ‬ومراكز‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية،‭ ‬وللعالم‭ ‬أو‭ ‬الطبيب‭ ‬الذي‭ ‬سيكتشف‭ ‬دواء‭ ‬ينقذ‭ ‬به‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأوبئة‭ ‬والأمراض‭ ‬والكوارث‭ ‬التي‭ ‬تُصيب‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭.‬