ريشة في الهواء

في الحروف تكمن الحياة

| أحمد جمعة

رأيت‭ ‬بحديقتي‭ ‬قرنفلة‭ ‬حمراء‭ ‬داكنة‭ ‬وكأنها‭ ‬فتاة‭ ‬متوردة‭ ‬البشرة،‭ ‬قطفتها‭ ‬وندمتُ‭ ‬لوهلةٍ‭ ‬حين‭ ‬أبصرتها‭ ‬حزينة‭ ‬بنقيض‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬وهي‭ ‬بغصنها‭ ‬في‭ ‬الروضة‭ ‬بين‭ ‬أطياف‭ ‬الورود،‭ ‬فقدتُ‭ ‬لوهلة‭ ‬بهجتي‭ ‬بها‭ ‬وهي‭ ‬بغصنها،‭ ‬فسعيتُ‭ ‬لتعويضها‭ ‬بأن‭ ‬وضعتها‭ ‬بإناء‭ ‬ورفدته‭ ‬بالماء‭ ‬ليسقي‭ ‬عودها‭ ‬آملا‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬ساعات‭ ‬أو‭ ‬أياما،‭ ‬أتأملها،‭ ‬ولشدّة‭ ‬هوسي‭ ‬بها،‭ ‬حتى‭ ‬كدت‭ ‬أفقد‭ ‬تركيزي،‭ ‬كلما‭ ‬تأملتها‭ ‬وهي‭ ‬ترمقني‭ ‬وكأنها‭ ‬تلومني‭ ‬على‭ ‬نزعها‭ ‬من‭ ‬غصنها‭ ‬بالشجرة‭. ‬أيام‭ ‬مضت،‭ ‬تأملتها،‭ ‬فإذا‭ ‬بي‭ ‬أفاجأ‭ ‬وقد‭ ‬صعد‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬أسفل‭ ‬غصنها،‭ ‬إلى‭ ‬أعلاها‭ ‬وطفقت‭ ‬قطرات‭ ‬الندى‭ ‬تلوح‭ ‬بأوراقها،‭ ‬شعرت‭ ‬ببهجة‭ ‬غامرة،‭ ‬بأنها‭ ‬بدت‭ ‬ترتوي‭. ‬انصرفت‭ ‬عنها‭ ‬وكلي‭ ‬غبطة‭ ‬بإحيائها،‭ ‬ومن‭ ‬شدّة‭ ‬لهفي‭ ‬عاودتها‭ ‬بالنهار‭ ‬التالي،‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬يابسة،‭ ‬وقد‭ ‬انفطرت‭ ‬أوراقها‭ ‬وتساقطت‭ ‬وبدت‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬بالحياة،‭ ‬ولكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬التي‭ ‬صدمتني،‭ ‬أنها‭ ‬رغم‭ ‬موتها،‭ ‬كانت‭ ‬تفوح‭ ‬منها‭ ‬رائحة‭ ‬زكية،‭ ‬أشد‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬وهي‭ ‬حية‭ ‬ترزق،‭ ‬أدركتُ‭ ‬ساعتها،‭ ‬أن‭ ‬قطرات‭ ‬الماء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطفح‭ ‬من‭ ‬أوراقها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى،‭ ‬دموعها‭ ‬الأخيرة‭ ‬وهذه‭ ‬حال‭ ‬حروف‭ ‬الكتابة‭!‬

المافيات‭... ‬ليست‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المال‭ ‬فقط،‭ ‬والإجرام‭ ‬ليس‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬جنايات‭ ‬القتل‭ ‬الجسدي،‭ ‬بل‭ ‬الجريمة‭ ‬أن‭ ‬تقتل‭ ‬عملا‭ ‬أدبيا‭ ‬متميزا‭ ‬ومبدعا،‭ ‬لصالح‭ ‬عمل‭ ‬ساقط‭ ‬أو‭ ‬هاوٍ‭ ‬لمجرد‭ ‬أن‭ ‬تقف‭ ‬وراءهُ‭ ‬أسماء‭ ‬داعمة‭ ‬ومكافآت‭ ‬سمينة،‭ ‬هنا‭ ‬تقع‭ ‬الجريمة‭ ‬باغتيال‭ ‬أديبٍ‭ ‬مبدع‭ ‬ورفع‭ ‬هاوٍ‭ ‬مبتدئ،‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ينكر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية؟‭ ‬من‭ ‬ينكر‭ ‬ذلك‭ ‬يأتيني‭ ‬بردٍ‭ ‬ينفي‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الجريمة‭.‬

هناك‭ ‬معارض‭ ‬للكتب‭ ‬بالعالم‭ ‬العربي‭ ‬تفوق‭ ‬أكبر‭ ‬المعارض‭ ‬العالمية‭ ‬كمعرض‭ ‬الرياض‭ ‬والقاهرة‭ ‬وأبوظبي،‭ ‬لكن‭ ‬حال‭ ‬القراء‭ ‬والقراءة‭ ‬لا‭ ‬يسر‭ ‬صديقاً‭ ‬ولا‭ ‬يغيظ‭ ‬عدواً‭ ‬فمازلنا‭ ‬للأسف‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬شعوباً‭ ‬صدق‭ ‬فيها‭ ‬قول‭ ‬موشي‭ ‬دايان‭ ‬“العرب‭ ‬لا‭ ‬يقرأون”‭ ‬أرجو‭ ‬ألا‭ ‬يغضب‭ ‬ذلك‭ ‬البعض،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بضع‭ ‬عشرات‭ ‬أو‭ ‬مئات‭ ‬يقتنون‭ ‬كتباً،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬عشرات‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬مئات‭ ‬يمسكون‭ ‬بالكتاب‭ ‬أننا‭ ‬شعوب‭ ‬تقرأ‭... ‬نحن‭ ‬شعوب‭ ‬لا‭ ‬نقرأ‭ ‬وإن‭ ‬قرأنا‭ ‬اخترنا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬ينطبق‭ ‬عليه‭ ‬معنى‭ ‬كتاب،‭ ‬وهذه‭ ‬كارثة،‭ ‬فالقراءة‭ ‬هي‭ ‬التنفس‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الشريان‭ ‬مثل‭ ‬الهواء،‭ ‬إن‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬تنفس‭ ‬الأكسجين‭ ‬مت،‭ ‬وإن‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬مت‭ ‬كذلك،‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬تنطبق‭ ‬على‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬ولا‭ ‬تنطبق‭ ‬علينا،‭ ‬هل‭ ‬تصدقون‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬حتى‭ ‬وزراء‭ ‬الثقافة‭ ‬لا‭ ‬يقرأون‭ ‬وهذا‭ ‬زلزال‭.‬

معارض‭ ‬الكتب‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬وما‭ ‬يصاحبها‭ ‬من‭ ‬توقيع‭ ‬الكتاب‭ ‬وندوات‭ ‬وأمسيات‭ ‬وأضواء‭ ‬وكاميرات‭ ‬وتصريحات‭ ‬كلها‭ ‬برستيج،‭ ‬إننا‭ ‬أمة‭ ‬تقرأ،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬تقرأ‭! ‬الهنود‭ ‬يقرأون‭ ‬والأوروبيون‭ ‬يقرأون‭ ‬والأميركان‭ ‬يقرأون‭ ‬والإسرائيليون‭ ‬بالأخص‭ ‬يقرأون‭ ‬ما‭ ‬يخصنا،‭ ‬وكل‭ ‬العالم‭ ‬يقرأ‭ ‬إلا‭ ‬نحن‭ ‬نتظاهر‭ ‬بالقراءة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬بعضنا‭ ‬يحب‭ ‬تصوير‭ ‬نفسه‭ ‬خلف‭ ‬المكتبة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬منها‭ ‬كتابا‭.‬

 

تنويرة‭: ‬

توقف‭ ‬الزمن،‭ ‬مقولة‭ ‬لبعض‭ ‬الكتاب‭ ‬الذين‭ ‬توقفوا‭ ‬عن‭ ‬التنفس‭.‬