عمود أكاديمي

هل سيتغير العالم مع جائحة كورونا؟

| د. باقر النجار

جائحة‭ ‬الكورونا‭ ‬ليست‭ ‬أزمة‭ ‬تخص‭ ‬بلدا‭ ‬أو‭ ‬إقليما‭ ‬معين،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬وبفعل‭ ‬اختراقها‭ ‬كل‭ ‬بقاع‭ ‬العالم،‭ ‬فإن‭ ‬تأثيراتها‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬موضعية‭ ‬قطرية‭ ‬أو‭ ‬إقليمية‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬أثارها‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬كوني‭ ‬ولن‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الآثار‭ ‬الاقتصادية‭ ‬أو‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬بتنا‭ ‬نشعر‭ ‬بها،‭ ‬وإنما‭ ‬العالم‭ ‬مقبل‭ ‬على‭ ‬تغيرات‭ ‬هيكلية‭ ‬أساسية‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬مواقع‭ ‬الدول‭ ‬وتأثيراتها‭ ‬على‭ ‬الخريطة‭ ‬العالمية،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬هي‭ ‬مقبلة‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬تغيرات‭ ‬داخلية‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬الدولة‭ ‬والقوى‭ ‬الماسكة‭ ‬بها‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬بالخارج‭ ‬وتموقعها‭ ‬على‭ ‬الخريطة‭ ‬الدولية،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الحربان‭ ‬العالميتان‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬قد‭ ‬أعادت‭ ‬رسم‭ ‬هيكلية‭ ‬العالم‭ ‬وفق‭ ‬معطيات‭ ‬جديدة‭.. ‬رسمتها‭ ‬الدول‭ ‬المنتصرة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭. ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى،‭ ‬فإن‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬بدت‭ ‬معجلة‭ ‬لتحولات‭ ‬دولية‭ ‬كانت‭ ‬تختمر‭ ‬قبل‭ ‬اجتياحها‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الحروب‭ ‬الحديثة‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الماضي‭ ‬قد‭ ‬شكلت‭ ‬المعطيات‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬عليها‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬فإن‭ ‬حرب‭ ‬كورونا‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬باتت‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬هذه‭ ‬الهيكلية‭ ‬وفق‭ ‬معطيات‭ ‬جديدة‭. ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬قد‭ ‬عبرت‭ ‬بمركز‭ ‬ثقل‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬أوروبا‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الجديد،‭ ‬فإن‭ ‬حرب‭ ‬كورونا‭ ‬تؤذن‭ ‬بنقل‭ ‬هذا‭ ‬الثقل‭ ‬لعالم‭ ‬الشرق‭ ‬القديم،‭ ‬وهو‭ ‬انتقال‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬غدا‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬غد‭ ‬وإنما‭ ‬كل‭ ‬المعطيات‭ ‬تشير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانتقال‭ ‬قد‭ ‬بات‭ ‬حتميا،‭ ‬وهو‭ ‬تغير‭ ‬سيأخذ‭ ‬فسحته‭ ‬الزمانية،‭ ‬وهي‭ ‬فسحة‭ ‬قد‭ ‬تطول‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬باتت‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬إرهاصاتها‭ ‬العامة‭.‬

وقد‭ ‬تمثل‭ ‬السياسات‭ ‬والإجراءات‭ ‬التي‭ ‬تبنتها‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الوباء‭ ‬مؤشرا‭ ‬مهما‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الوباء‭ ‬والقضاء‭ ‬عليه،‭ ‬وإنما‭ ‬قد‭ ‬يعبر‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬تماسك‭ ‬الدولة‭ ‬ونجاعة‭ ‬إجراءاتها‭. ‬وهي‭ ‬تعكس‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬نمط‭ ‬الإدارة‭ ‬وصراعات‭ ‬القوة‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬الدولة‭ ‬المختلفة‭. ‬وتمثل‭ ‬مثلا‭ ‬قدرة‭ ‬الصين‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الوباء‭ ‬وضبط‭ ‬انتشاره‭ ‬وكفاءة‭ ‬إدارتها‭ ‬للأزمة‭ ‬وخروجها‭ ‬السريع‭ ‬نسبيا‭ ‬رغم‭ ‬ضخامة‭ ‬الخسائر‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬بها،‭ ‬تماسك‭ ‬الدولة‭ ‬واستمرار‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬ووضوح‭ ‬الرؤية‭ ‬عند‭ ‬متخذي‭ ‬القرار‭. ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬سيستمر‭ ‬معها‭ ‬لعقود‭ ‬قادمة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يؤهلها‭ ‬بالإضافة‭ ‬للأسباب‭ ‬الأخرى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والتقنية‭ ‬والسياسية‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تموضع‭ ‬نفسها‭ ‬كقوة‭ ‬مؤثرة‭ ‬وليست‭ ‬الوحيدة‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭. ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬الطبيعة‭ ‬السلطوية‭ ‬للدولة‭ ‬قد‭ ‬مكنتها‭ ‬بالإضافة‭ ‬للأسباب‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬مرحلة‭ ‬الخطر‭ ‬في‭ ‬حربها‭ ‬على‭ ‬الوباء‭ ‬وعدم‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬الفوضى،‭ ‬وهو‭ ‬اجتياز‭ ‬بات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تقنياته‭ ‬وإجراءاته،‭ ‬بالنسبة‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الآن،‭ ‬نموذجا‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬حربها‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬الوباء‭.‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬فشل‭ ‬إدارة‭ ‬الأزمة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقود‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬استمرارية‭ ‬الأزمة،‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستولي‭ ‬على‭ ‬الشارع،‭ ‬إحدى‭ ‬الجماعات‭ ‬الخارجة‭ ‬على‭ ‬القانون،‭ ‬أو‭ ‬أننا‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬نشهد‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬التمرد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أثناء‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬الأزمة‭ ‬تقوده‭ ‬الجماعات‭ ‬المتضررة‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬الوباء‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬ذلك‭ ‬صحيا‭ ‬أو‭ ‬اقتصاديا‭ ‬ولربما‭ ‬اجتماعيا،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬قد‭ ‬يطيح‭ ‬ببعض‭ ‬إنجازات‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسره‭ ‬انتشار‭ ‬أخبار‭ ‬غير‭ ‬رسمية‭ ‬وغير‭ ‬مؤكدة‭ ‬من‭ ‬لجوء‭ ‬بعض‭ ‬أثرياء‭ ‬العالم‭ ‬للتواري‭ ‬في‭ ‬ملاجئ‭ ‬محمية‭ ‬خارج‭ ‬المدن‭ ‬وسرية‭ ‬المواقع‭. ‬فتوقف‭ ‬الآلة‭ ‬الصناعية‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬وبعدها‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬يكاد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬شل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬وأرسل‭ ‬خسائر‭ ‬فادحة‭ ‬لكل‭ ‬اقتصادات‭ ‬العالم،‭ ‬وهوى‭ ‬بأسعار‭ ‬مواد‭ ‬الطاقة‭ ‬في‭ ‬العالم‭.. ‬أوقف‭ ‬أو‭ ‬منع‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬ما‭ ‬رفع‭ ‬بالتالي‭ ‬من‭ ‬نسب‭ ‬البطالة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬العشرة‭ ‬ملايين‭ ‬عاطل‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مارس‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬وأخرج‭ ‬القطاعات‭ ‬المتوسطة‭ ‬والصغيرة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬العمل‭ ‬وأفقر‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬رزقهم‭ ‬يعتمد‭ ‬إما‭ ‬على‭ ‬أعمالهم‭ ‬الهامشية‭ ‬اليومية‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬الفرعية‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬تسند‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬أو‭ ‬المتوسطة‭. ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬مع‭ ‬استمرارها‭ ‬لفترات‭ ‬أطول‭ ‬يمكن‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬أن‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬التمرد‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ما‭ ‬يخلق‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭.‬

أما‭ ‬التحول‭ ‬الآخر‭ ‬المهم‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬كشفته‭ ‬الأزمة‭ ‬عن‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬خدمات‭ ‬الدولة‭ ‬الصحية،‭ ‬والتي‭ ‬أصابها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬قدارا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬التدهور،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يمثل‭ ‬سقوطا‭ ‬لمنظومة‭ ‬خدماتها‭ ‬الصحية،‭ ‬والتي‭ ‬يتم‭ ‬الإنفاق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬جيوب‭ ‬دافعي‭ ‬الضرائب‭ ‬نتيجة‭ ‬للسياسات‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬نحو‭ ‬تبنيها‭ ‬المؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬الدولية‭. ‬ولربما‭ ‬يقدم‭ ‬المثال‭ ‬الإيطالي‭ ‬والإسباني‭ ‬والبريطاني‭ ‬نماذج‭ ‬لفشل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أزمة‭ ‬كورونا‭ ‬والارتفاع‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬الوفيات‭ ‬والإصابات‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬السكان‭ ‬وعجز‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬ضبط‭ ‬انتشاره‭ ‬والسيطرة‭ ‬علية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬قد‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬المستشفيات‭ ‬الحكومية‭ ‬من‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬الكوادر‭ ‬الطبية‭ ‬وفي‭ ‬الأجهزة‭ ‬الطبية‭ ‬كنقص‭ ‬في‭ ‬أجهزة‭ ‬التنفس‭ ‬وتلك‭ ‬ذات‭ ‬العلاقة‭ ‬بحماية‭ ‬الطواقم‭ ‬الطبية،‭ ‬والذين‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك‭ ‬انتقلت‭ ‬العدوى‭ ‬لبعضهم‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬وفاة‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬منهم‭..‬

ولابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فشل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬أزمة‭ ‬الكورونا‭ ‬إنما‭ ‬يعكس‭ ‬طبيعة‭ ‬الأزمات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬وعجز‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أحزابها‭ ‬السياسية‭ ‬عن‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬السلطة‭ ‬طويلا،‭ ‬إضافة‭ ‬لما‭ ‬تعانيه‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬ومآزق‭ ‬اقتصادية‭ ‬عمقت‭ ‬من‭ ‬مشكلاتها‭ ‬السياسية‭ ‬وأضعفت‭ ‬من‭ ‬أداء‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬لوظائفها‭...‬

وقد‭ ‬يقدم‭ ‬النموذجان‭ ‬الألماني‭ ‬والفرنسي‭ ‬حالة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬النماذج‭ ‬الأوروبية‭ ‬الأخرى‭ ‬المأزومة،‭ ‬إلا‭ ‬أنهما‭ ‬تعانيان‭ ‬من‭ ‬تدنٍ‭ ‬في‭ ‬شعبيتهما‭ ‬السياسية‭ ‬وتنامٍ‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬قوة‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬وتحديدا‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭. ‬وقد‭ ‬تنفرد‭ ‬بينهم‭ ‬جمهورية‭ ‬ألمانيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬جودة‭ ‬إدارتها‭ ‬للأزمة‭ ‬قد‭ ‬انعكس‭ ‬في‭ ‬قلة‭ ‬الوفيات‭ ‬والإصابات‭ ‬بين‭ ‬سكانها‭ ‬مقارنة‭ ‬بالدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬الأخرى‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى،‭ ‬فإن‭ ‬فشل‭ ‬جل‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬في‭ ‬أدارة‭ ‬أزمة‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬وعجزها‭ ‬عن‭ ‬تلبية‭ ‬حاجات‭ ‬السكان‭ ‬الطبية‭ ‬سيدفع‭ ‬دافعي‭ ‬الضرائب‭ ‬الأوربيين‭ ‬نحو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬صيغ‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الدولة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬تتجاوز‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الصيغ‭ ‬القائمة‭ ‬ولربما‭ ‬يقود‭ ‬ذلك‭ ‬للإطاحة‭ ‬بالطبقة‭ ‬السياسية‭ ‬القائمة‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬ينسب‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬الفشل‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬يقفز‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬اليمين‭ ‬الأوروبي‭ ‬المتطرف‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬فشل‭ ‬الطبقة‭ ‬السياسية‭ ‬الحاكمة‭ ‬تقوده‭ ‬وبقوة‭ ‬لقيادة‭ ‬الدولة‭. ‬كما‭ ‬ستقود‭ ‬حالة‭ ‬الضعف‭ ‬الذي‭ ‬باتت‭ ‬تعانيه‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬إلى‭ ‬تنامٍ،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬أضعف‭ ‬أمام‭ ‬الحركات‭ ‬الانفصالية‭.. ‬بمعنى‭ ‬آخر،‭ ‬فإننا‭ ‬قد‭ ‬نشهد‭ ‬ومن‭ ‬جديد‭ ‬مطالبات‭ ‬انفصالية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬ولربما‭ ‬في‭ ‬أقاليم‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬كنتيجة‭ ‬لهذه‭ ‬الأزمة‭. ‬وهو‭ ‬فعل‭ ‬سيطيح‭ ‬بكل‭ ‬الصيغ‭ ‬الاتحادية‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬أوروبا‭ ‬على‭ ‬تعزيزها‭ ‬خلال‭ ‬القرون‭ ‬الخمسة‭ ‬الأخيرة‭.‬

وأخيرا،‭ ‬فإن‭ ‬الأزمة‭ ‬قادت‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬إلى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬الدولية‭ ‬وتحلل‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬من‭ ‬القوانين‭ ‬الدولية‭ ‬الضابطة‭ ‬لسلوك‭ ‬الدول‭ ‬والحافظة‭ ‬لحقوقهم‭. ‬كاتهام‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬بالاستيلاء‭ ‬على‭ ‬شحنة‭ ‬من‭ ‬“الكمامات”‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مشحونة‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬لألمانيا،‭ ‬وكذلك‭ ‬اتهام‭ ‬تركيا‭ ‬بالاستيلاء‭ ‬على‭ ‬شحنة‭ ‬من‭ ‬أجهزت‭ ‬التنفس‭ (‬فنتيليتر‭) ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الآخر‭ ‬مشحونة‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا،‭ ‬والاتهامات‭ ‬التي‭ ‬وجهت‭ ‬لدول‭ ‬أخرى‭ ‬كإيطاليا‭ ‬والتشيك‭ ‬وكينيا‭ ‬بالاستيلاء‭ ‬على‭ ‬كمامات‭ ‬وأجهزة‭ ‬طبية‭ ‬تستخدم‭ ‬في‭ ‬علاج‭ ‬وباء‭ ‬الكورونا،‭ ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬أمثلة‭ ‬تعكس‭ ‬حالة‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬عليها‭ ‬سلوك‭ ‬الدول،‭ ‬وهي‭ ‬فوضى‭ ‬قد‭ ‬تتسع‭ ‬مع‭ ‬استمرار‭ ‬الأزمة‭ ‬واجتياحها‭ ‬دون‭ ‬هوادة‭ ‬لبعض‭ ‬الدول‭. ‬وتطرح‭ ‬هذه‭ ‬الفوضى‭ ‬تساؤلات‭ ‬حول‭ ‬مستقبل‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬استمرارية‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭... ‬

وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬السياسات‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬التي‭ ‬تبنتها‭ ‬معظم‭ ‬الحكومات‭ ‬الغربية‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية‭ ‬قد‭ ‬أطاحت‭ ‬بدولة‭ ‬الرفاه‭ ‬وأطاحت‭ ‬معه‭ ‬بكل‭ ‬منظومة‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬يأتي‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬على‭ ‬رأسها‭.. ‬ونتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬تصمد‭ ‬طويلا‭ ‬خدماتها‭ ‬الصحية‭ ‬أمام‭ ‬اجتياح‭ ‬وباء‭ ‬الكورونا،‭ ‬فهوت‭ ‬معه‭ ‬كل‭ ‬منظوماتها‭ ‬الصحية‭. ‬وهو‭ ‬سقوط‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬تبعات‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬كبيرة‭ ‬ليست‭ ‬عليها‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أقاليم‭ ‬العالم‭. ‬فهل‭ ‬يؤذن‭ ‬ذلك‭ ‬بانهيار‭ ‬الغرب‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬كما‭ ‬توقع‭ ‬البعض‭. ‬وبالمقابل‭ ‬أعتقد‭ ‬أننا‭ ‬قد‭ ‬دخلنا‭ ‬مرحلة‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬فقوة‭ ‬وسطوة‭ ‬الغرب‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬لن‭ ‬تنهار‭ ‬أو‭ ‬تغرب،‭ ‬كما‭ ‬رغب‭ ‬أو‭ ‬اعتقد‭ ‬البعض،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬ستضعف‭ ‬ولن‭ ‬تختفي‭ ‬وسينشغل‭ ‬خلالها‭ ‬الغرب‭ ‬بترميم‭ ‬بيته‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬إنهاء‭ ‬صراعاته‭ ‬الداخلية‭ ‬ولربما‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬إنعاش‭ ‬اقتصاده‭ ‬المنهار‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬عودته‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬سابق‭ ‬عهده‭ ‬رغم‭ ‬استمرار‭ ‬امتلاكه‭ ‬للمعرفة‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬ولربما‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية،‭ ‬فمرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬كورونا‭ ‬هي‭ ‬ستكون‭ ‬مرحلة‭ ‬صعبة‭ ‬على‭ ‬شعوب‭ ‬وحكومات‭ ‬العالم،‭ ‬فاقتصادات‭ ‬العالم‭ ‬متوقفة‭ ‬وبعضها‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الإفلاس‭ ‬والحسابات‭ ‬السياسية‭ ‬لبعض‭ ‬رؤساء‭ ‬الدول‭ ‬لن‭ ‬تعقد‭ ‬فحسب‭ ‬من‭ ‬أوضاعها‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وإنما‭ ‬ستربك‭ ‬كل‭ ‬إجراءاتها‭ ‬الصحية،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬يمثل‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬خطوات‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتشكل‭ ‬بعد‭ ‬وستمثل‭ ‬الصراعات‭ ‬ولربما‭ ‬الفوضى‭ ‬سمته‭ ‬الرئيسة‭.. ‬ولن‭ ‬تكون‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هي‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بصراعاتها‭ ‬العبثية‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬بكل‭ ‬بناءات‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬ودمرت‭ ‬بنيان‭ ‬نسيجها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وأضعفت‭ ‬من‭ ‬كياناتها‭ ‬السياسية‭..‬