سنعود يا “فيرلا”

| محمد العثمان

لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬تقضي‭ ‬“فيرلا”،‭ ‬ابنة‭ ‬روما‭ ‬أيامها‭ ‬ولياليها‭ ‬الآن‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬أن‭ ‬القدر‭ ‬لم‭ ‬يمهلنا‭ ‬سويًا‭ ‬لارتشاف‭ ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬آخر‭. ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬انه‭ ‬يمهلنا‭ ‬إياها،‭ ‬ولو‭ ‬تقاربت‭ ‬الخطى‭ ‬ومنحتنا‭ ‬الحياة‭ ‬صدفةً‭ ‬“بعد‭ ‬أن‭ ‬عزّ‭ ‬اللقاء”‭ ‬فإن‭ ‬مقائينا‭ ‬ستنزف‭ ‬دما‭ ‬معجونا‭ ‬بالصمت‭ ‬في‭ ‬مقلتينا‭.‬

“فيرلا”،‭ ‬كلما‭ ‬داهمتني‭ ‬مرارة‭ ‬الذكريات‭ ‬ومطبات‭ ‬الألم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬يخفق‭ ‬قلبي‭ ‬بذاك‭ ‬الأمل‭ ‬السرمدي،‭ ‬الذي‭ ‬يتلقاه‭ ‬الواقف‭ ‬على‭ ‬عتبات‭ ‬كاتدرائية‭ ‬القديس‭ ‬يوحنا‭ ‬في‭ ‬روما‭. ‬والتي‭ ‬أبهرتني‭ ‬بلاغتك‭ ‬في‭ ‬وصفها‭... ‬كعادتك‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الروحانيات‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭.‬

في‭ ‬صمت‭ ‬الوحدة،‭ ‬وحين‭ ‬يتهادى‭ ‬المرء‭ ‬بين‭ ‬وابل‭ ‬سهام‭ ‬الدهر‭... ‬ويكتم‭ ‬الآهات،‭ ‬ويلوّذ‭ ‬بالدعاء‭ ‬للخالق‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬تنجلي‭ ‬هذه‭ ‬الغمة‭... ‬وماذا‭ ‬عنكِ‭ ‬“فيرلا”؟‭! ‬هل‭ ‬مازلتِ‭ ‬تعيشين‭ ‬حلم‭ ‬التضامن‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بين‭ ‬البشر؟‭ ‬أبعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التنكيل‭ ‬والأنانيّة‭ ‬الرأسماليّة؟‭! ‬هل‭ ‬مازالت‭ ‬ترفرف‭ ‬على‭ ‬شرفة‭ ‬سكناك‭ ‬تلك‭ ‬الأعلام‭ ‬الحمراء‭ ‬ذات‭ ‬الموعد‭ ‬القادم‭ ‬لا‭ ‬محالة‭... ‬كما‭ ‬أنتِ‭ ‬حين‭ ‬وصفك‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬الفارقة‭ ‬التي‭ ‬تتوعدين‭ ‬فيها‭ ‬الحياة؟‭! ‬أم‭ ‬انكسرت‭ ‬تلك‭ ‬الألحان‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬اقدام‭ ‬الوحش‭ ‬الصغير‭ ‬جداً‭ ‬جداً‭... ‬كوفيد19‭. ‬القادم‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬كجائحة‭ ‬تنهب‭ ‬الأرواح‭ ‬نهباً؟‭!‬

أما‭ ‬زالت‭ ‬تلك‭ ‬الابتسامة‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬محيّاك‭ ‬في‭ ‬غدوك‭ ‬ورواحك‭. ‬هل‭ ‬تذكرين‭ ‬انبعاثك‭ ‬الأول‭ ‬ذات‭ ‬مساء،‭ ‬ذلك‭ ‬الانبعاث‭ ‬الأخاذ‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬معبد‭ ‬“البانثيون”،‭ ‬معبد‭ ‬كل‭ ‬الآلهة‭ ‬في‭ ‬روما‭... ‬حين‭ ‬أفصحت‭ ‬عن‭ ‬العشق‭ ‬الإلهي‭ ‬لتلك‭ ‬المدينة‭ ‬الصامدة‭... ‬روما‭.‬

هل‭ ‬تذكرين‭ ‬ما‭ ‬مرّ‭ ‬بنا‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬نافورة‭ ‬“تريفي”‭ ‬حيث‭ ‬المطعم‭ ‬الذي‭ ‬يقدم‭ ‬“البيتزا”‭ ‬الرديئة‭ ‬جداً‭... ‬وطوافنا‭ ‬حول‭ ‬المواقع‭ ‬الأثرية‭ ‬في‭ ‬روما‭.‬

أتذكر‭ ‬شغفك‭ ‬الدائم‭ ‬بعملك‭ ‬وكأني‭ ‬أراك‭ ‬الآن‭ ‬تتهادين‭ ‬يمنةً‭ ‬ويسرة،‭ ‬تارة‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الفوج‭ ‬وأخرى‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الجمع‭... ‬شارحةً‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬شرحه‭ ‬للزائرين‭. ‬حتى‭ ‬طوب‭ ‬“البانثيون”‭ ‬الذي‭ ‬تطأه‭ ‬أقدام‭ ‬السواح‭ ‬يأخذ‭ ‬نصيبه‭ ‬من‭ ‬الشرح‭ ‬المطوّل‭. ‬وإذا‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬قابل‭ ‬للشرح‭ ‬والأخذ‭ ‬والرد،‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬تفاصيل،‭ ‬فما‭ ‬أسهل‭ ‬اجتراحك‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تقديمه‭ ‬من‭ ‬بنات‭ ‬أفكارك‭! ‬لذا،‭ ‬أنتِ‭ ‬مختلفة‭ ‬“فيرلا”‭!‬

حينها‭ ‬تحدثنا‭ ‬طويلاً‭ ‬عن‭ ‬الرقي‭ ‬الإنساني‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬قديما‭ ‬وحديثا،‭ ‬وأمطرتيني‭ ‬بوابل‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬غنيّة‭ ‬وغزيرة‭ ‬وعميقة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭. ‬الآن،‭ ‬مازالت‭ ‬عباراتك‭: ‬نحن‭ ‬من‭ ‬تعلمت‭ ‬أوروبا‭ ‬على‭ ‬أيديهم‭ ‬الفن‭ ‬والحضارة،‭ ‬لقد‭ ‬أخذوا‭ ‬منا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭... ‬الموضة‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬“فلورنسا”‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬الباهرة‭ ‬ذات‭ ‬المركز‭ ‬الاشعاعي‭ ‬المضيء‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭... ‬لقد‭ ‬تأوهت‭ ‬الأرض‭ ‬تحت‭ ‬أقدام‭ ‬“روما”،‭ ‬تحت‭ ‬أقدام‭ ‬الرومان،‭ ‬الذين‭ ‬أوكلت‭ ‬لهم‭ ‬السماء‭ ‬اشعال‭ ‬قناديل‭ ‬ليل‭ ‬أوروبا‭.‬

اليوم،‭ ‬أنا‭ ‬اتذكر‭ ‬تلك‭ ‬المعالم‭ ‬التاريخية‭ ‬الناطقة‭ ‬بألق‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬الجغرافية‭ ‬الأوروبية‭. ‬فلورنسا‭ ‬حيث‭ ‬السوح‭ ‬المتعددة،‭ ‬الجمهورية،‭ ‬السيادة،‭ ‬ساحة‭ ‬مايكل‭ ‬أنغلو،‭ ‬سان‭ ‬لورينزو،‭ ‬ماريا‭ ‬نوفيلا،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬المشطورة‭ ‬بنهر‭ ‬“أرنو”‭... ‬وذاك‭ ‬الجسر‭ ‬الخشبي‭ ‬العريق‭. ‬وتلك‭ ‬القصور‭ ‬والمتاحف‭ ‬والمعارض‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إيطاليا‭ ‬وليس‭ ‬فلورنسا‭ ‬وحسب‭!‬

سنعود‭ ‬إليكِ‭ ‬“فيرلا”‭. ‬سنعود‭ ‬إلى‭ ‬“روما”‭ ‬سنعود‭ ‬إلى‭ ‬“فلورنسا”‭ ‬وسنعود‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تهدأ‭ ‬عاصفة‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬لفظتنا‭ ‬جميعًا‭ ‬بغتةً‭... ‬وفرقتنا‭ ‬شيّعًا‭ ‬في‭ ‬أصقاع‭ ‬الأرض‭... ‬سنعود‭ ‬بأرواح‭ ‬منتشية‭ ‬فارهة‭ ‬الجمال‭.‬

سنعود‭ ‬يا‭ ‬“فيرلا”‭ ‬كزهور‭ ‬الميموزا‭ ‬الصفراء‭ ‬الزاهية‭!‬

‭* ‬محام‭ ‬وكاتب‭ ‬بحريني