العزلُ المنزلي... قرّبَنا

| هدى حرم

كائنٌ‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬بالعينِ‭ ‬المجردة،‭ ‬لمْ‭ ‬يتوصل‭ ‬العلماءُ‭ ‬لمعرفةِ‭ ‬ماهيتهِ‭ ‬بعد،‭ ‬يفتكُ‭ ‬بالبشر‭ ‬ويُسقط‭ ‬الآلافَ‭ ‬من‭ ‬الضحايا‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭! ‬لا‭ ‬يُفرِّقُ‭ ‬بين‭ ‬غنيٍ‭ ‬ولا‭ ‬فقيرٍ‭ ‬ولا‭ ‬أبيضَ‭ ‬ولا‭ ‬أسودَ‭ ‬ولا‭ ‬عربي‭ ‬ولا‭ ‬أعجمي‭. ‬فيروسٌ‭ ‬حقيرٌ‭ ‬يشنُّ‭ ‬هجومهُ‭ ‬على‭ ‬الكرةِ‭ ‬الأرضيةِ‭ ‬برُمتِها؛‭ ‬فيَهْلَكَ‭ ‬منْ‭ ‬يهْلك،‭ ‬ويسْقم‭ ‬منْ‭ ‬يسْقَم‭ ‬وينجو‭ ‬منْ‭ ‬ينجو‭. ‬هي‭ ‬الحربُ‭ ‬إذاً‭! ‬حربٌ‭ ‬من‭ ‬الطرازِ‭ ‬الحديث،‭ ‬فيروسيةٌ‭ ‬بامتياز،‭ ‬حربٌ‭ ‬لا‭ ‬تعرفُ‭ ‬فيها‭ ‬العدو؛‭ ‬فتعجز‭ ‬عن‭ ‬منازلته،‭ ‬ولا‭ ‬تملكُ‭ ‬الأسلحةَ‭ ‬اللازمةَ‭ ‬للقتال‭ ‬وأنتَ‭ ‬في‭ ‬أشدِّ‭ ‬الحاجةِ‭ ‬إليها‭ ‬لتنجو‭. ‬حربٌ‭ ‬لا‭ ‬تنفعُ‭ ‬معها‭ ‬المواجهة،‭ ‬من‭ ‬واجهَ‭ ‬اسْتُشهِدَ‭ ‬ومنْ‭ ‬اِختبأ‭ ‬خلفَ‭ ‬أكياسِ‭ ‬الرمالِ‭ ‬نجا،‭ ‬نعم،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السبيلُ‭ ‬الوحيدُ‭ ‬لقتالِ‭ ‬هذا‭ ‬العدوُ‭ ‬الآثم،‭ ‬البقاءُ‭ ‬خلفَ‭ ‬جدرانِ‭ ‬الرمال،‭ ‬عزلنا‭ ‬أنفسَنا‭ ‬كي‭ ‬ننجو‭ ‬وبقينا‭ ‬في‭ ‬مساكننا‭ ‬كي‭ ‬نحاربَ‭ ‬العدوَ‭ ‬الخفي،‭ ‬لا‭ ‬أسهلَ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القتال‭! ‬معركةٌ‭ ‬بلا‭ ‬دماء،‭ ‬ودفاعٌ‭ ‬بلا‭ ‬استنزاف‭.‬

بقاؤنا‭ ‬في‭ ‬منازِلنا‭ ‬باتَ‭ ‬مسؤوليةً‭ ‬وواجباً‭ ‬وطنياً‭ ‬يحتِّمهُ‭ ‬علينا‭ ‬العقلُ‭ ‬والشرعُ‭ ‬كي‭ ‬نحقنَ‭ ‬الدماءَ‭ ‬ونُحافظَ‭ ‬على‭ ‬الأنفس،‭ ‬وخلالِ‭ ‬هذا‭ ‬الحجر‭ ‬تعرّفنا‭ ‬على‭ ‬أنعُمٍ‭ ‬كنا‭ ‬نعِدُّها‭ ‬مسلماتٍ‭ ‬للحياة،‭ ‬أدركنا‭ ‬كم‭ ‬هو‭ ‬جميلٌ‭ ‬أنْ‭ ‬نجتمعَ‭ ‬مع‭ ‬أحبتنا‭ ‬ونتشاركَ‭ ‬أفراحَنا‭ ‬وأحزانَنا،‭ ‬أنْ‭ ‬نفهمَ‭ ‬بعضَنا،‭ ‬وأنْ‭ ‬نُسْهِمَ‭ ‬بدورٍ‭ ‬أكبرَ‭ ‬في‭ ‬محيطِ‭ ‬عيشنا‭ ‬المشترك؛‭ ‬فنمد‭ ‬يد‭ ‬العون‭ ‬للمحتاجين‭ ‬والمتضررين‭ ‬والمرضى،‭ ‬اختبرنا‭ ‬مشاعرَ‭ ‬التعاطف‭ ‬المخلصة‭ ‬مع‭ ‬أفرادِ‭ ‬أُسرِنا؛‭ ‬فقدّرْنا‭ ‬تضحياتِهم‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬لمسناها‭ ‬عن‭ ‬كثب‭.‬

علمنا‭ ‬الآنَ‭ ‬أنّا‭ ‬نحتاجُ‭ ‬لتطهيرِ‭ ‬أرواحِنا‭ ‬من‭ ‬دنس‭ ‬الدنيا،‭ ‬قبل‭ ‬أيدينا،‭ ‬كي‭ ‬يقبلَنا‭ ‬اللهُ‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬الحرام‭ ‬ويفتحَ‭ ‬لنا‭ ‬أبوابَ‭ ‬مساجده،‭ ‬اكتشفنا‭ ‬أنَّ‭ ‬امتعاضَنا‭ ‬من‭ ‬النهوضِ‭ ‬صباحاً‭ ‬للذهابِ‭ ‬لأعمالنا‭ ‬ومدارسنا‭ ‬محضُ‭ ‬نُكرانٍ‭ ‬للنعم،‭ ‬وأيقنا‭ ‬أننا‭ ‬جحدنا‭ ‬الخيرَ‭ ‬في‭ ‬تجمُّعاتِنا‭ ‬ووصل‭ ‬أرحامِنا،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نتثاقلُ‭ ‬من‭ ‬القيامِ‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أيامِ‭ ‬الصحةِ‭ ‬والرخاء،‭ ‬بتنا‭ ‬نتعطشُ‭ ‬للحياةِ‭ ‬التي‭ ‬ظنناها‭ ‬عاديةً‭ ‬جداً‭ ‬وهي‭ ‬ليستْ‭ ‬كذلك‭.‬

والأهمُ‭ ‬أنّا‭ ‬تعلّمنا‭ ‬الدرس؛‭ ‬فالفيروسُ‭ ‬أيقظَنا‭ ‬واللهُ‭ ‬أدَّبنا‭ ‬والعزلُ‭ ‬المنزليُ‭ ‬قرَّبنا‭.‬