الوباء بين التهويل والاستهتار

| هدى حرم

بين‭ ‬التخويفِ‭ ‬والتهويل،‭ ‬والاستهتارِ‭ ‬والإهمال‭ ‬نتعاملُ‭ ‬مع‭ ‬الجائحةِ‭ ‬الراهنة‭! ‬قسَّمَنا‭ ‬فيروس‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬بالعين‭ ‬المجردةِ‭ ‬إلى‭ ‬فريقين‭ ‬كلٌ‭ ‬منهما‭ ‬انحرفَ‭ ‬عن‭ ‬جادةِ‭ ‬الصوابِ‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬الوضعِ‭ ‬القائم‭. ‬انبثقَ‭ ‬الوباءُ‭ ‬من‭ ‬بؤرةِ‭ ‬التصنيع؛‭ ‬فخلنا‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يجاوزَ‭ ‬مصنعه،‭ ‬وظننا‭ ‬أنّا‭ ‬في‭ ‬منأىً‭ ‬من‭ ‬سطوته،‭ ‬لكنه‭ ‬تفجَّرَ‭ ‬فانبثقتْ‭ ‬منه‭ ‬ملايينُ‭ ‬الحالات‭ ‬وآلافُ‭ ‬الوفيات‭ ‬حين‭ ‬انتشرَ‭ ‬في‭ ‬طولِ‭ ‬الأرضِ‭ ‬وعرضِها‭ ‬وتربعَّ‭ ‬جالساً‭ ‬في‭ ‬عُقرِ‭ ‬دارِنا‭ ‬وتمددَ‭ ‬مُنتشياً‭ ‬بهواءِ‭ ‬رئاتنا‭ ‬يحصدُ‭ ‬في‭ ‬حيواتنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هوادة،‭ ‬وفي‭ ‬خضمِّ‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬الخطر‭ ‬يتصارخُ‭ ‬المرتعبون‭ ‬في‭ ‬ذهول؛‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬الموتِ‭ ‬بالوباء،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يكتفونَ‭ ‬بالفزعِ‭ ‬الذاتي‭ ‬الكامنِ‭ ‬في‭ ‬دواخلِهم،‭ ‬بل‭ ‬ينشرونه‭ ‬للناس‭ ‬أجمعين‭ ‬وبصورةٍ‭ ‬أخطرَ‭ ‬من‭ ‬انتشارِ‭ ‬الفيروسِ‭ ‬ذاته‭. ‬هم‭ ‬يشحنونَ‭ ‬المُتلقي‭ ‬بالرعبِ‭ ‬والجزعِ‭ ‬حتى‭ ‬يُسِّلم‭ ‬لهذا‭ ‬المخلوقِ‭ ‬البيولوجي‭ ‬الحقير؛‭ ‬فيموتَ‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الفيروسِ‭ ‬بلْ‭ ‬من‭ ‬اليأسِ‭ ‬والقنوطِ‭ ‬من‭ ‬النجاة‭.‬

أما‭ ‬الفريقُ‭ ‬الثاني،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يستفزني‭ ‬أكثر؛‭ ‬فقد‭ ‬أَصمّ‭ ‬أُذُني‭ ‬وأَعمي‭ ‬عيني‭ ‬عن‭ ‬المهولين،‭ ‬لكني‭ ‬لن‭ ‬أستطيعَ‭ ‬النفاذَ‭ ‬بجلدي‭ ‬من‭ ‬المستهترين‭. ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬كيف‭ ‬يُفكرون؟‭ ‬إِلمْ‭ ‬يُهمَهمْ‭ ‬أنهم‭ ‬ضحايا‭ ‬ربما‭ ‬للفيروسِ‭ ‬المقيت،‭ ‬أفلا‭ ‬يُهمهمْ‭ ‬أنْ‭ ‬ينقلوه‭ ‬لفلذاتِ‭ ‬أكبادِهم‭ ‬وأحبتِهم‭ ‬ومن‭ ‬يحيونَ‭ ‬في‭ ‬حيّهمْ‭ ‬ويلتقون‭ ‬بهم‭. ‬يتجاهلون‭ ‬حملاتِ‭ ‬الوقاية،‭ ‬يصمونَ‭ ‬آذانَهم‭ ‬عن‭ ‬سُبُلِ‭ ‬الحماية،‭ ‬لا‭ ‬يستمعونَ‭ ‬لآراءِ‭ ‬علماء‭ ‬الدين،‭ ‬ولا‭ ‬يتورعونَ‭ ‬عن‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬مراكزِ‭ ‬التجمعِ‭ ‬بحجةِ‭ ‬أداءِ‭ ‬الواجبِ‭ ‬أو‭ ‬قضاءِ‭ ‬الحوائج‭. ‬إنْ‭ ‬تجنبتَ‭ ‬قُبَلَهمْ‭ ‬وأحضانَهم،‭ ‬اغتصبوها‭ ‬منكَ‭ ‬اغتصاباً‭ ‬غير‭ ‬آبهين‭ ‬بخطورةِ‭ ‬ذلك‭. ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬أنا‭ ‬مصاباً،‭ ‬وماذا‭ ‬لو‭ ‬كنتَ‭ ‬أنتَ‭ ‬مصابا؟‭ ‬أقول،‭ ‬كيف‭ ‬ستلقى‭ ‬الله‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬وقد‭ ‬آذيتني‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬لفلانٍ‭ ‬في‭ ‬رقبتكَ‭ ‬دما؟

هؤلاء‭ ‬لا‭ ‬يكفيهم‭ ‬استهتارهم‭ ‬بحياة‭ ‬الآخرين‭ ‬بل‭ ‬ينسجونَ‭ ‬الطُرَفَ‭ ‬التي‭ ‬لنْ‭ ‬تُضحِكَ‭ ‬المنكوبين،‭ ‬كما‭ ‬لنْ‭ ‬تُضحِكَهم‭ ‬همْ‭ ‬إنْ‭ ‬تمكّنَ‭ ‬منهم‭ ‬قائدُ‭ ‬الموت‭ ‬وحاصدُ‭ ‬الأرواح‭.‬

وهنا‭ ‬وجبَ‭ ‬القول‭ ‬إنَّ‭ ‬فريقاً‭ ‬آخرَ‭ ‬قد‭ ‬انتصبَ‭ ‬شامخاً‭ ‬في‭ ‬منتصفِ‭ ‬الموج‭ ‬العاتي،‭ ‬لا‭ ‬يأبهُ‭ ‬بعاصفة‭ ‬المهوّلين‭ ‬ولا‭ ‬ينبطحُ‭ ‬لهدوءِ‭ ‬المستهترين،‭ ‬وهم‭ ‬الفئةُ‭ ‬التي‭ ‬آمنتْ‭ ‬بربها‭ ‬فكانتْ‭ ‬أمةً‭ ‬وسطا‭. ‬أمة‭ ‬اتخذتْ‭ ‬كلَ‭ ‬تدابيرِ‭ ‬السلامةِ‭ ‬والوقايةِ‭ ‬وجعلتْ‭ ‬من‭ ‬حفظِ‭ ‬النفسِ‭ ‬والدمِ‭ ‬شِرعةً‭ ‬ومنهاجاً،‭ ‬وتوكلت‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تضيعُ‭ ‬ودائعه؛‭ ‬فاللهُ‭ ‬خيرٌ‭ ‬حافظاً‭ ‬وهو‭ ‬أرحمُ‭ ‬الرحمين‭.‬