لماذا عليَّ أن أكتب؟! (3)

| أميرة صليبيخ

أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أعثر‭ ‬على‭ ‬اخوتي‭ ‬في‭ ‬القصة،‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لهم‭ ‬القصة‭ ‬ذاتها‭ ‬والوجع‭ ‬نفسه‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يحكوا‭ ‬عنه،‭ ‬فأكل‭ ‬الصمت‭ ‬ألسنتهم،‭ ‬لذلك‭ ‬أنوب‭ ‬عنهم‭ ‬وأستنطقهم‭ ‬بقلمي‭ ‬وأمثلهم‭ ‬في‭ ‬محفل‭ ‬الورق،‭ ‬أكتب‭ ‬لأن‭ ‬صحبة‭ ‬الورق‭ (‬آمنة‭)‬،‭ ‬فهو‭ ‬لن‭ ‬يفشي‭ ‬سرك‭ ‬ولن‭ ‬يقصم‭ ‬قلبك‭ ‬بالغدر‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬عادة‭ ‬البشر‭.‬

أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يجربوا‭ ‬أن‭ ‬يفضفضوا‭ ‬أحاديثهم‭ ‬للورق،‭ ‬لن‭ ‬يدركوا‭ ‬قيمة‭ ‬هذا‭ ‬الصديق‭ ‬الصامت‭.. ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يدور‭ ‬تماماً‭ ‬في‭ ‬عقلي،‭ ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أنفض‭ ‬أعماقي‭ ‬التي‭ ‬غطاها‭ ‬غبار‭ ‬الصمت،‭ ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أوقف‭ ‬قطار‭ ‬العمر‭ ‬الذي‭ ‬يمر‭ ‬من‭ ‬أمامي‭ ‬وهو‭ ‬خالٍ‭ (‬مني‭)! ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أقبض‭ ‬على‭ ‬اللحظة‭ ‬المارقة‭ ‬مني‭ ‬وأحفظها‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬من‭ ‬الأسطر،‭ ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أشغل‭ ‬حواسي‭ ‬كلها‭ ‬وأعلمها‭ ‬الإنصات‭ ‬والإحساس‭ ‬بما‭ ‬حولي،‭ ‬فحواسي‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الكلام،‭ ‬فمثلاً‭ ‬أذني‭ ‬التي‭ ‬أدمنت‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬تشايكوفسكي‭ ‬وبرامز‭ ‬وييروما‭ ‬تريد‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬نشوتها‭ ‬أثناء‭ ‬العزف،‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬عبر‭ ‬الكتابة،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬الكتابة‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬ذلك‭!‬

أكتب‭ ‬لأن‭ ‬الورق‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تحتفظ‭ ‬بنا،‭ ‬إذ‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬أتساءل‭: ‬ترى‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬والقصص‭ ‬كانت‭ ‬ستُنسى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تُكتب‭ ‬ولم‭ ‬تنقذها‭ ‬الأوراق‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬النسيان؟‭ ‬أكتب‭ ‬لأن‭ ‬قلبي‭ ‬جائع‭ ‬للكلام‭ ‬ولا‭ ‬أذن‭ ‬حولي‭ ‬لتسمعه‭ ‬وحتى‭ ‬أرّوض‭ ‬نفسي‭ ‬بنفسي‭ ‬أولاً‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬

البعض‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬الجلوس‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬لكن‭ ‬الكتابة‭ ‬ستعلمك‭ ‬أن‭ ‬صحبة‭ ‬نفسك‭ ‬هي‭ ‬الأهم‭. ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬تتطلب‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التركيز،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تتطلبه‭ ‬الحياة‭ ‬بأكملها‭.‬

الكتابة‭ ‬تهذبك‭ ‬وتعلمك‭ ‬حُسن‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬نفسك‭ ‬وقلبك‭ ‬وعقلك،‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬الطفل‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬نسيته‭ ‬في‭ ‬داخلك‭ ‬وكبر‭ ‬ليصبح‭ ‬أنت‭! ‬أنا‭ ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أتذكر‭ ‬أنني‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭. ‬وماذا‭ ‬عنك؟‭.‬