وَخْـزَةُ حُب

عقلية المسطرة... مُتعِبة!

| د. زهرة حرم

لم‭ ‬يُخلق‭ ‬الإنسان‭ ‬كاملا،‭ ‬لذلك‭ ‬يؤكد‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ - ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موضع‭ - ‬أن‭ ‬لدينا‭ ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬نوازع‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬معا،‭ ‬وأن‭ ‬الخيَار‭ ‬يقع‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬تبني‭ ‬أحد‭ ‬الطريقين‭ ‬أو‭ ‬تغليب‭ ‬أحدهما‭ ‬على‭ ‬الآخر‭! ‬غير‭ ‬أن‭ ‬بعضنا‭ ‬يصرون‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬حِيدة‭ ‬عنه،‭ ‬ولا‭ ‬زيغ،‭ ‬أو‭ ‬انحراف‭ ‬بأن‭ ‬يكونوا‭ ‬مساطر‭! ‬أي‭ ‬أنهم‭ ‬يتبنون‭ ‬عقلية‭ ‬المسطرة‭! ‬يتحركون‭ ‬ضمن‭ ‬قياسات‭ ‬مضبوطة،‭ ‬بالسنتيمتر‭ ‬والمليمتر‭!‬

ليس‭ ‬الأمر‭ ‬مقصورًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ديني‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬فقط؛‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالعبادة؛‭ ‬من‭ ‬صلاة‭ ‬وصوم‭... ‬إلخ،‭ ‬فوساوسهم‭ ‬حول‭ ‬أدائها‭ ‬لا‭ ‬تنقضي،‭ ‬نظرا‭ ‬لأسباب‭ ‬شتى،‭ ‬لعل‭ ‬عقلية‭ ‬المسطرة‭ ‬إحداها،‭ ‬ومحاولاتهم‭ ‬المستميتة‭ ‬في‭ ‬العدّ‭ ‬والحساب،‭ ‬والتأكد‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬السهو،‭ ‬أو‭ ‬الغفلة،‭ ‬أو‭ ‬النسيان‭! ‬تراهم‭ ‬في‭ ‬شغل‭ ‬شاغل،‭ ‬وهمّ‭ ‬مقيم،‭ ‬يقيمون‭ ‬الدنيا‭ ‬ولا‭ ‬يقعدونها،‭ ‬إذا‭ ‬تبيّن‭ ‬لهم‭ ‬خلل‭ ‬أو‭ ‬نقص‭.‬

هؤلاء‭ ‬حياتهم‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬هاجس‭ ‬المثالية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء؛‭ ‬من‭ ‬أقصاه‭ ‬إلى‭ ‬أدناه‭! ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬تتعايش‭ ‬معهم؛‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يكتفون‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬بل‭ ‬يتجهون‭ ‬للآخرين‭ ‬الذين‭ ‬يختلفون‭ ‬عنهم‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬والإزعاج‭! ‬يجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬دقيقين،‭ ‬منضبطين،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء؛‭ ‬فيما‭ ‬يلبسون،‭ ‬أو‭ ‬يقتنون،‭ ‬أو‭ ‬يمتلكون،‭ ‬وفي‭ ‬تربية‭ ‬أبنائهم،‭ ‬وفي‭ ‬علاقاتهم،‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬حولهم،‭ ‬من‭ ‬زملاء،‭ ‬وأصدقاء،‭ ‬وغيرهم‭. ‬وما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬شاكلتهم،‭ ‬واضطررت‭ ‬للتعامل‭ ‬معهم؛‭ ‬فإنك‭ ‬ستعاني‭ ‬الكثير‭ ‬جدا؛‭ ‬لترضيهم،‭ ‬أو‭ ‬تحاول‭ ‬تسيير‭ ‬الأمور‭ ‬معهم‭.‬

لا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬يصر‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ (‬عقلية‭ ‬المسطرة‭)‬،‭ ‬في‭ ‬حياته‭: ‬محاسب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭! ‬مهندس‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭! ‬مصحح‭ ‬لكل‭ ‬هفوة‭! ‬شرطي‭ ‬أو‭ ‬ضابط،‭ ‬على‭ ‬الدوام‭! ‬يضع‭ ‬القواعد‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭! (‬يمشي‭ ‬على‭ ‬عجين‭ ‬ما‭ ‬يلخبطه‭!) ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬إخواننا‭ ‬المصريون،‭ ‬ويظنون‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬النجاح‭ ‬بعينه،‭ ‬أو‭ ‬تقفّي‭ ‬طرقِه‭ ‬والسير‭ ‬عليها‭! ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬العذاب‭ ‬بحد‭ ‬ذاته،‭ ‬مُجسَّدا‭ ‬على‭ ‬الأرض‭! ‬وعجبًا‭ ‬لهؤلاء؛‭ ‬كيف‭ ‬يسعون‭ ‬خلف‭ ‬شقائهم‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬ويجرون‭ ‬خلف‭ ‬سراب،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬خلقهم‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬مطالبين‭ ‬بتحميل‭ ‬أنفسهم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬تحمله‭.‬

لا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬بالطبع،‭ ‬السير‭ ‬على‭ ‬البركات،‭ ‬وتغييب‭ ‬الدقة‭ ‬والانضباط،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬النفس‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الأريحية،‭ ‬والمرونة،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬التسامح‭ ‬والرحمة؛‭ ‬حين‭ ‬يزيغ‭ ‬القلم،‭ ‬أو‭ ‬تنحرف‭ ‬المسطرة‭ ‬قليلا‭! ‬فالنجاحات‭ ‬الكبيرة‭ ‬متخمة‭ ‬بالأخطاء،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المثالية‭ ‬نفسها‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬انعدام‭ ‬الأخطاء،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تعني‭ ‬الطريقة‭ ‬الصحيحة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الأخطاء‭ ‬–‭ ‬إن‭ ‬وُجدت‭ ‬–‭ ‬بواقعية‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الحلول‭ (‬مثالية‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬الشخص‭ (‬مثاليًا‭) ‬حقيقيا،‭ ‬لا‭ ‬حالة‭ ‬مرضية‭ ‬مهووسة‭ ‬بشبح‭ ‬غير‭ ‬موجود‭ ‬أصلا،‭ ‬نسميه‭: (‬المثالية‭).‬