وَخْـزَةُ حُب

الذاكرة... تتآكل!

| د. زهرة حرم

هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يمر‭ ‬بعشرات‭ ‬الأحداث‭ ‬يوميًا،‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬الكثير‭ ‬منها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه،‭ ‬هذه‭ ‬حقيقة‭ ‬تُرجعنا‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬الاهتمام‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؛‭ ‬فكل‭ ‬عملية‭ ‬اهتمام،‭ ‬تعني‭ ‬تركيزا،‭ ‬والتركيز‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬الدماغ‭ ‬يُرسخ‭ ‬معلومة‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬حدثًا‭ ‬أطول‭ ‬مدة‭ ‬ممكنة،‭ ‬وكلما‭ ‬كان‭ ‬المرء‭ ‬منَّا‭ ‬شغوفًا‭ ‬بالشيء؛‭ ‬قويت‭ ‬ذاكرته‭ ‬حوله،‭ ‬وأصبح‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للنسيان‭.‬

يعني‭ ‬هذا‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا‭ ‬–‭ ‬أننا‭ ‬قد‭ ‬نكون‭ ‬سببًا؛‭ ‬لضعف‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬تجاه‭ ‬بعض‭ ‬الأحداث،‭ ‬ألا‭ ‬ترون‭ ‬أننا‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬نعمد‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬تذكّر‭ ‬ما‭ ‬يُزعجنا‭ ‬أو‭ ‬يؤلمنا؛‭ ‬حين‭ ‬نرفض‭ ‬الحديث‭ ‬عنه،‭ ‬أو‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الصور‭ ‬المتعلقة‭ ‬به،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬والأشخاص،‭ ‬وكأننا‭ ‬نُمرّن‭ ‬أدمغتنا‭ ‬على‭ ‬نسيانه،‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬بقعة‭ ‬سوداء‭ ‬معتمة،‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للنظر‭ ‬أو‭ ‬الاسترجاع،‭ ‬وكيف‭ ‬نسترجعها‭ ‬أصلا؛‭ ‬ونحن‭ ‬نرفضها،‭ ‬ونستميت‭ ‬في‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬مؤثراتها‭!‬

هذا‭ ‬يؤكد‭ ‬المقولة‭ ‬الشهيرة‭ ‬“إن‭ ‬الأعضاء‭ ‬تقوى‭ ‬وتنشط‭ ‬بالاستخدام،‭ ‬وتضمر‭ ‬وتذوي‭ ‬بالإهمال”‭! ‬وما‭ ‬دمنا‭ ‬نُهمل،‭ ‬بل‭ ‬نُدرّب‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬على‭ ‬الإهمال؛‭ ‬فلا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬النتيجة‭ ‬المنطقية‭ ‬الحاصلة‭ ‬هي‭ ‬الضعف‭ ‬والفتور‭! ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬نُدرك‭ ‬أن‭ ‬تحسين‭ ‬الذاكرة‭ ‬أمرٌ‭ ‬مرهونٌ‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بما‭ ‬يُراد‭ ‬تذكره،‭ ‬إِنْ‭ ‬بتكرارِه‭ ‬أو‭ ‬كتابتِه‭ ‬أو‭ ‬الإلحاح‭ ‬على‭ ‬مضامينه،‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى؛‭ ‬ليبقى‭ ‬أثره‭ ‬متوهجًا،‭ ‬قارَّا،‭ ‬ثابتًا‭ ‬في‭ ‬عقولنا،‭ ‬وقابلا‭ ‬للاستذكار‭ ‬والاستحضار‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬نشاء‭.‬

أمر‭ ‬خطير‭ ‬آخر‭ ‬قد‭ ‬يُحدث‭ ‬إرباكًا‭ ‬للذاكرة،‭ ‬ويجعل‭ ‬منها‭ ‬ضعيفة‭ ‬واهنة،‭ ‬أو‭ ‬متعكزة‭ ‬على‭ ‬الآخرين؛‭ ‬لاستعادة‭ ‬أحداث‭ ‬ما؛‭ ‬هو‭ ‬الاختناق‭ ‬المروريّ‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬المهام‭ ‬والمسائل‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬نحاول‭ ‬جاهدين‭ ‬إدخالها‭ ‬عقولنا‭ ‬عُنوة،‭ ‬ونرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نستعيدها‭ ‬ببساطة؛‭ ‬فنُفاجأ‭ ‬أننا‭ ‬غير‭ ‬قادرين؛‭ ‬إذْ‭ ‬ننساها‭ ‬تمامًا،‭ ‬ويرافق‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬فقدان‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬أمور‭ ‬حياتية‭ ‬بسيطة؛‭ ‬فيتملّكنا‭ ‬الإحباط،‭ ‬وتصيبنا‭ ‬الدهشة‭ ‬من‭ ‬أمرنا‭! ‬لماذا‭ ‬ننسى؟‭ ‬سؤال‭ ‬لو‭ ‬فتنشنا‭ ‬في‭ ‬حيثياته،‭ ‬وتأكدنا‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬خلل‭ ‬طبي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬خلفه؛‭ ‬سيحيلنا‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬الفوضى‭ ‬في‭ ‬حياتنا؛‭ ‬فوضى‭ ‬الأشياء،‭ ‬وغياب‭ ‬الترتيب،‭ ‬وتشعُّب‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬بالاهتمامات،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ (‬إهمالات‭) ‬لو‭ ‬جاز‭ ‬لنا‭ ‬التعبير؛‭ ‬لأن‭ ‬الاهتمام‭ ‬تركيز‭ ‬لا‭ ‬تشتيت،‭ ‬وتعميق‭ ‬لا‭ ‬تسطيح،‭ ‬وتوحيد‭ ‬لا‭ ‬تكثير،‭ ‬وتنويع‭ ‬لا‭ ‬تحشيد‭! ‬الاهتمام‭ ‬يعني‭ ‬تسليط‭ ‬حواسك‭ ‬ووعيك‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬تريد؛‭ ‬فيأتي‭ ‬إليك‭ ‬طوعًا‭ ‬كلما‭ ‬احتجته،‭ ‬وينقاد‭ ‬إليك‭ ‬في‭ ‬سلاسة‭.‬

نحن‭ - ‬شبابًا‭ ‬وكهولا‭ - ‬مصابون‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬والمحظوظ‭ ‬فينا‭ ‬من‭ ‬حظي‭ ‬بذاكرة‭ ‬حديدية‭ ‬لا‭ ‬تغيّرها‭ ‬حوادث‭ ‬الدهر،‭ ‬ولا‭ ‬تزاحمها‭ ‬المسؤوليات،‭ ‬والواجبات،‭ ‬ولا‭ ‬عزاء‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬بتصفية‭ ‬عقولنا،‭ ‬وتهدئة‭ ‬بالنا،‭ ‬وإعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬حياتنا،‭ ‬ورمي‭ ‬الأحمال‭ ‬الزائدة،‭ ‬حينها؛‭ ‬ستفقز‭ ‬إلينا‭ ‬الذكريات،‭ ‬تترى،‭ ‬واحدة‭ ‬بعد‭ ‬الأخرى‭.‬