عمود أكاديمي

تساؤلات حول مستقبل الرأسمالية

| د. باقر النجار

لقد‭ ‬استعرنا‭ ‬عنوان‭ ‬مقال‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬العدد‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬المجلة‭ ‬الأميركية‭ ‬المعروفة‭ ‬بالفورين‭ ‬أفيرز‭ (‬الشؤون‭ ‬الخارجية‭) (‬1‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬والدراسات‭ ‬خرجت‭ ‬بها‭ ‬مؤخرًا‭ ‬مراكز‭ ‬الأبحاث‭ ‬والتفكير‭ ‬وباحثون‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الأوربي‭. ‬وهي‭ ‬دراسات‭ ‬قد‭ ‬تناولت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬إخفاقات‭ ‬الأشكال‭ ‬المنظمة‭ ‬للعلاقة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الدول‭ ‬والأقاليم‭ ‬والعالم‭. ‬فبعضها‭ ‬قد‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬إخفاقات‭ ‬التحالفات‭ ‬الإقليمية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬ولربما‭ ‬أبرزها‭ ‬إخفاق‭ ‬السوق‭ ‬الأوربية‭ ‬المشتركة،‭ ‬وبات‭ ‬البعض‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬إخفاقات‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬والعملة‭ ‬الأوربية‭ ‬الموحدة‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعضهم‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬دخول‭ ‬الاتحاد‭ ‬في‭ ‬العملة‭ ‬الأوربية‭ ‬الموحدة‭: ‬اليورو‭ ‬قد‭ ‬أعطى‭ ‬أولًا‭ ‬المانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬قوة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬وصلت‭ ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬إلى‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬رؤاهم‭ ‬على‭ ‬الأطراف‭ ‬الأخرى‭ ‬الأقل‭ ‬قوة‭ ‬أو‭ ‬الأضعف‭ (‬2‭). ‬وثانيًا‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬عاظمت‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬الاقتصاديات‭ ‬الأصغر‭ ‬والأضعف‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬دخلت‭ ‬الاتحاد‭ ‬متأخرة‭ ‬كاليونان‭ ‬والبرتغال‭ ‬وبدرجة‭ ‬أقل‭ ‬في‭ ‬اسبانيا‭ ‬والنمسا،‭ ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬بروز‭ ‬النزعات‭ ‬الانفصالية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬هي‭ ‬ظاهرة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭.. ‬ويشير‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬الأوربيين‭ ‬وبعض‭ ‬التيارات‭ ‬السياسية‭ ‬ذات‭ ‬النزعة‭ ‬القومية‭ ‬المفرطة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬المتأثرة‭ ‬أو‭ ‬المتحالفة‭ ‬مع‭ ‬التيارات‭ ‬القومية‭ ‬الشعبوية‭ ‬أن‭ ‬دخول‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬العملة‭ ‬النقدية‭ ‬الموحدة،‭ ‬بل‭ ‬بعضها‭ ‬يذهب،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬والنزعة‭ ‬المتنامية‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬القائمين‭ ‬علية‭ ‬يخلق‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التماثل‭ ‬والاتساق‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬بين‭ ‬أطرافه‭ ‬بات‭ ‬يهدد‭ ‬تدريجيا‭ ‬هوياتها‭ ‬الوطنية‭ ‬ويفقدها‭ ‬خصوصياتها‭ ‬الإقليمية‭ ‬والتماهي‭ ‬لصالح‭ ‬الهوية‭ ‬الأوربية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يخرجوا‭ ‬منها‭ ‬بالشيء‭ ‬الكثير‭. ‬بالإضافة‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬تنامي‭ ‬التيارات‭ ‬الشعبوية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬سدة‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬الأوربية‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬والنمسا‭ ‬ودول‭ ‬شرق‭ ‬أوربا‭ ‬وتنامي‭ ‬قوتها‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وألمانيا،‭ ‬قد‭ ‬ينذر‭ ‬بتحولات‭ ‬سياسية‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬وهو‭ ‬تيار‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الدعم‭ ‬مع‭ ‬وصول‭ ‬الرئيس‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬للرئاسة‭ ‬الأميركية‭ ‬وقد‭ ‬يتعزّز‭ ‬وضعه‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أعيد‭ ‬انتخابه‭ ‬لدور‭ ‬ثان‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأخطر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬تلك‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬موت‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والنظام‭ ‬الليبرالي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الحريات‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬راسخة‭ ‬بفعل‭ ‬عمق‭ ‬الممارسة‭ ‬والتأصيل‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬توسعة‭ ‬مجالاتها‭ ‬ومستوياتها‭ ‬مقابل‭ ‬أشكال‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬التسلطية‭ ‬الجديدة‭ ‬الممزوجة‭ ‬بشكل‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬الليبرالية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وقدر‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬الحريات‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬عدمها‭. ‬مع‭ ‬فاعلية‭ ‬بدت‭ ‬كبيرة‭ ‬ومتسعة‭ ‬لآليات‭ ‬عمل‭ ‬نظام‭ ‬السوق،‭ ‬بل‭ ‬ونفوذ‭ ‬متزايد‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي،‭ ‬كما‭ ‬يمثلها‭ ‬النموذجان‭ ‬الروسي‭ ‬والصيني‭ ‬وبعض‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الشرقية‭ ‬وبعض‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭. ‬وبدا‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬القادر‭ ‬على”‭ ‬تحقيق‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الرخاء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وارتفاع‭ ‬في‭ ‬مستويات‭ ‬الدخل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬أنظمة‭ ‬شمولية‭ ‬أو‭ ‬تسلطية”‭. ‬وهي‭ ‬نماذج‭ ‬باتت‭ ‬مقبولة‭ ‬وذات‭ ‬تكلفة‭ ‬سياسية‭ ‬أقل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬وذات‭ ‬قبول‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمنظومة‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬توّجت‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬مؤخرًا‭ ‬بحديث‭ ‬بدا‭ ‬متزايدًا‭ ‬عن‭ ‬اختلالات‭ ‬هيكلية‭ ‬في‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الجديدة‭ ‬ذات‭ ‬النزعة‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬المتزايدة‭ ‬وهي‭ ‬كتابات‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬نهاية‭ ‬وشيكة‭ ‬للنظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬ألا‭ ‬أنها‭ ‬بداية‭ ‬تداعيه‭ ‬كنظام‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬لقرابة‭ ‬الثلاثة‭ ‬قرون‭ ‬توجها‭ ‬بسيطرة‭ ‬تامة‭ ‬عليه‭ ‬خلال‭ ‬الخمسين‭ ‬سنة‭ ‬الأخيرة‭ (‬3‭).‬

‭ ‬لقد‭ ‬حقق‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬منذ‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الإنجازات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬معه‭ ‬قد‭ ‬حقق‭ ‬للإنسانية‭ ‬الكثير‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يحققه‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬أخرى‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬العالم‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬النظام‭ ‬الوحيد‭ ‬والذي‭ ‬تحديدا‭ ‬خلال‭ ‬الخمسين‭ ‬سنة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬قد‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬بل‭ ‬ويخضع‭ ‬شعوبا‭ ‬ومجتمعات‭ ‬بدمجها‭ ‬بإرادتها‭ ‬أو‭ ‬قسرًا‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬العالمي‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬عمليات‭ ‬العولمة‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬لم‭ ‬تدع‭ ‬أي‭ ‬ركن‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬العالم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جزءًا‭ ‬منها‭. ‬فالرغبة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الغنى‭ ‬والتحرر‭ ‬كان‭ ‬دافعًا‭ ‬كافيًا‭ ‬لتكون‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬جزءًا‭ ‬منه‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التخوفات‭ ‬التي‭ ‬أثيرت‭ ‬حينها‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬أن‭ ‬تحقيق‭ ‬الغنى‭ ‬والتحرر‭ ‬قد‭ ‬جاء‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬العادات‭ ‬وقيم‭ ‬المجتمعات‭ ‬المحلية‭ ‬ولربما‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬نزعات‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬الجديد‭. ‬لقد‭ ‬أجبرت‭ ‬رغبة‭ ‬الصعود‭ ‬الاقتصادي‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات،‭ ‬يأخذها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬نماذج‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬على‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬إطارها‭ ‬المرجعي‭ ‬المحلي‭ ‬المعيار‭ ‬الضابط‭ ‬للمجتمع‭ ‬ورذم‭ ‬حركيته،‭ ‬فلم‭ ‬تكسبها‭ ‬الليبرالية‭ ‬الجديدة‭ ‬التقدم‭ ‬والغنى‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬هويتها‭ ‬واستقرارها‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ (‬4‭).‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬مهمًّا‭ ‬القول‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬هو‭ ‬النظام‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬قرابة‭ ‬الثلاثة‭ ‬قرون‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يطيح‭ ‬وأن‭ ‬يطوّع‭ ‬كل‭ ‬الأنظمة‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬التحدي‭ ‬والمنافسة‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬ذاته‭ ‬ومنذ‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وانتهاء‭ ‬حقبة‭ ‬صراع‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬إبان‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬بات‭ ‬يفرز‭ ‬مشاكل‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تجاوزها‭ ‬سريعًا‭. ‬فإخفاقات‭ ‬النظام‭ ‬وتوظيفاته‭ ‬ومحاولات‭ ‬إعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬حزمة‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬باتت‭ ‬تفرز‭ ‬مشكلات‭ ‬كبطالة‭ ‬والجريمة‭ ‬وتدهور‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬وكم‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬محاولات‭ ‬توظيف‭ ‬الصيغة‭ ‬الجديدة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬لم‭ ‬تأت‭ ‬بذات‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطمح‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬نتائجها‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬كبيره‭. ‬إذ‭ ‬بات‭ ‬بعضها‭ ‬أو‭ ‬جلها‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬عجز‭ ‬اقتصادي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬أطرافه‭ ‬الأكثر‭ ‬غنى‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬سد‭ ‬عجوزاتها‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬بروز‭ ‬الصين‭ ‬على‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬بات‭ ‬مهددًا‭ ‬لاستمرارية‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬السوق‭ ‬العالمي‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استثنينا‭ ‬استمرار‭ ‬هيمنة‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬سوق‭ ‬السلاح‭ ‬وسوق‭ ‬الاختراع‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬مع‭ ‬عمليات‭ ‬العولمة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬ساعد‭ ‬الرأسمالية‭ ‬كنظام‭ ‬اقتصادي‭ ‬على‭ ‬اختراق‭ ‬كل‭ ‬ركن‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬العالم‭ ‬والذي‭ ‬قاد‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬النصف‭ ‬قرن‭ ‬الأخير‭ ‬تطور‭ ‬تكنولوجي‭ ‬واقتصادي‭ ‬هائل‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬ورفع‭ ‬الدخل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الصاعدة‭ ‬اقتصاديًّا‭ ‬كالصين‭ ‬والهند،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بنجيري‭ ‬ودوفلوا،‭ ‬الحائزان‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬لعام‭ ‬2019،‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬ولربما‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬المنظومة‭ ‬الصناعية‭ ‬خارج‭ ‬إمكانيات‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬رغم‭ ‬البحث‭ ‬عنه،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الفقر‭ ‬وهي‭ ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬بسبب‭ ‬الركود‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭ ‬باتت‭ ‬تهدد‭ ‬من‭ ‬استقرار‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭. ‬وثانيًا‭ ‬الوهن‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬اقتصاد‭ ‬ضعيف‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬وتنامي‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬للتيارات‭ ‬الشعبوية‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭. ‬وهي‭ ‬تيارات‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬لبعض‭ ‬البلاد‭ ‬وأن‭ ‬تغير‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭. ‬وهو‭ ‬وصول‭ ‬سيؤثر‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬على‭ ‬سياسات‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬الداخلية‭ ‬ليست‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمسألة‭ ‬المهاجرين‭ ‬والدخول‭ ‬والعمل‭ ‬والاستقرار‭ ‬فيها‭ ‬وإنما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بسياساتها‭ ‬الداخلية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التعدد‭ ‬الهوياتي‭ ‬وعلى‭ ‬إدماج‭ ‬الأقليات‭ ‬المهاجرة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬والحياة‭ ‬العامة‭. ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭ ‬فإن‭ ‬الوصول‭ ‬الشعبوي‭ ‬للحكم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬قد‭ ‬يقود‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬تآكل‭ ‬في‭ ‬الحريات‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية‭ ‬وإلى‭ ‬تقلص‭ ‬تدريجي‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬منذ‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وإلى‭ ‬تضييق‭ ‬أكبر‭ ‬على‭ ‬مسائل‭ ‬العمل‭ ‬والإقامة‭ ‬ولربما‭ ‬التملك‭ ‬العقاري‭ ‬للأجانب‭.‬

‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬انتهاء‭ ‬الصراع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬بين‭ ‬معسكري‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق‭ ‬الأوربي‭ ‬وانتهاء‭ ‬صراعهما‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬على‭ ‬النفوذ‭ ‬والمواقع‭ ‬ومصادر‭ ‬الثروة‭ ‬في‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬واستواء‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬كنظام‭ ‬أحادي‭ ‬قائم‭ ‬ومهيمن‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬العالمية،‭ ‬قد‭ ‬أفرغ‭ ‬الرأسمالية‭ ‬من‭ ‬وقودها‭ ‬الأساسي‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬التكيف‭ ‬والتطوير‭ ‬والقائم‭ ‬على‭ ‬التحدي‭ ‬والابتكار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬الجديد،‭ ‬ومن‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭ ‬فإن‭ ‬التوجهات‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬نفسه‭ ‬أنهت‭ ‬ولربما‭ ‬قضت‭ ‬على‭ ‬نموذج‭ ‬دولة‭ ‬الرفاه‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬عليه‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬بعيد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬حتى‭ ‬ثمانينات‭ ‬وتسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬قادت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬آلت‭ ‬إليه‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬حالتها‭ ‬المعاصرة‭. ‬

‭  ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬خرجت‭ ‬الدعوات‭ ‬القائلة‭ ‬بحاجة‭ ‬العالم‭ ‬لنظام‭ ‬جديد‭ ‬يتجاوز‭ ‬حالة‭ ‬الجمود‭ ‬والهدر‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والكارثة‭ ‬البيئية‭ ‬القائمة‭. ‬أي‭ ‬يتحدث‭ ‬هؤلاء‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬لترويض‭ ‬النزعات‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬في‭ ‬الاقتصاديات‭ ‬الحديثة‭ ‬وإنما‭ ‬الحاجة‭ ‬على‭ ‬تكييف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬الاشتراكية‭ ‬الأوربية‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬دولة‭ ‬الرفاه‭ ‬للأوضاع‭ ‬المعاصرة‭ ‬وان‭ ‬يكون‭ ‬للناس‭ ‬والمجتمعات‭ ‬دور‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬مساراتهم‭ ‬المستقبلية‭. ‬أي‭ ‬جعل‭ ‬النظام‭ ‬وعائداته‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬تعمل‭ ‬بصورة‭ ‬أكبر‭ ‬لصالح‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬عمومه،‭ ‬لأن‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬اتساع‭ ‬حالة‭ ‬العجز‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وارتفاع‭ ‬معدلات‭ ‬الفقر‭ ‬والبطالة‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬بات‭ ‬يهدّد‭ ‬كما‭ ‬يقولون‭ ‬الاستدامة‭ ‬الشرعية‭ ‬للديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬ظلها‭ ‬استطاعت‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬مواجهة‭ ‬التحديات‭ ‬والتكيف‭ ‬وتطويع‭ ‬أو‭ ‬حل‭ ‬مشكلاتها‭ ‬القائمة،‭ ‬وهي‭ ‬مشكلات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحجم‭ ‬والنوع‭ ‬تقارب‭ ‬مشكلات‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬السابقة‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬بات‭ ‬يواجه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المشكلات‭ ‬الجديدة‭ ‬أفرتها‭ ‬الإخفاقات‭ ‬الهيكلية‭ ‬للنظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬ولربما‭ ‬عجزه‭ ‬في‭ ‬منظومته‭ ‬النيوليبراليه‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬مشكلاته‭ ‬وهي‭ ‬مشكلات‭ ‬باتت‭ ‬تهدد‭ ‬وجوده‭ ‬وكينونته‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬ابتكار‭ ‬الجديد‭ ‬أمام‭ ‬تقاليد‭ ‬وأسس‭ ‬النظام‭ ‬القديم‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬ولادته‭ ‬صعبة‭ ‬ومتعسرة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مشوهة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬التعاون‭ ‬الجماعي‭ ‬والدولي‭ ‬لإصلاح‭ ‬النظام‭ ‬القائم‭.‬

المصادر”‭.‬

1‭. ‬Foreign Affairs‭, ‬JanuaryFebruary 20120‭.‬

2‭. ‬جوزيف‭ ‬إي‭. ‬تيغلز،‭ ‬اليورو‭: ‬كيف‭ ‬تهدد‭ ‬العملة‭ ‬الموحدة‭ ‬مستقبل‭ ‬أوربا،‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة،الكويت،عدد476‭ ‬سبتمبر‭ ‬2019‭.‬

3‭. ‬Foreign Affairs‭, ‬January‭/‬‏February 2020‭.‬

4‭. ‬المعجزة‭ ‬الآسيوية‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬البعض‭ ‬دون‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬فلم‭ ‬تستطع‭ ‬الفلبين‭ ‬وإندونيسيا‭. ‬وغيرها‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬الصين‭ ‬وكوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬وسنغافورا‭.. ‬وغيرها‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬إخفاقات‭ ‬الأرجنتين‭ ‬والبرازيل‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬ينم‭ ‬عن‭ ‬ان‭ ‬محاولات‭ ‬الصعود‭ ‬لا‭ ‬تعمل‭ ‬بوتيرة‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الدول،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬استيراد‭ ‬الحلول‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬للبعض‭ ‬الآخر‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬أنها‭ ‬حلول‭ ‬ناجعة‭ ‬أو‭ ‬قابلة‭ ‬للتطبيق‭.‬