خاطرة في يوم جمعة جميل (2)

| صالح بن سالم الشهري

دخلنا‭ ‬المسجد‭ ‬ونبهت‭ ‬أبنائي‭ ‬بضرورة‭ ‬عدم‭ ‬إزعاج‭ ‬المصلين‭ ‬بتخطي‭ ‬رقابهم‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬أقرب‭ ‬مكان‭ ‬مناسب‭ ‬لنجلس‭ ‬به،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬فرغنا‭ ‬من‭ ‬تأدية‭ ‬تحية‭ ‬المسجد‭ ‬وبدأت‭ ‬جموع‭ ‬المصلين‭ ‬في‭ ‬التوافد‭ ‬للمسجد‭ ‬حتى‭ ‬بدأ‭ ‬معها‭ ‬مسلسل‭ ‬تخطي‭ ‬الرقاب‭ ‬من‭ ‬مصلين‭ ‬يتأخرون‭ ‬في‭ ‬القدوم‭ ‬للمسجد‭ ‬ولكنهم‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الحرص‭ ‬جزاهم‭ ‬الله‭ ‬خيراً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يفوزوا‭ ‬بأجر‭ ‬الصفوف‭ ‬الأولى‭ ‬فلا‭ ‬تنفك‭ ‬تميل‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة‭ ‬لسيقان‭ ‬بشرية‭ ‬يقحمها‭ ‬أصحابها‭ ‬بين‭ ‬جذوعنا‭ ‬وأكتافنا‭ ‬بينما‭ ‬نحن‭ ‬جالسون‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نظفر‭ ‬ببعض‭ ‬الخشوع‭ ‬بتلاوة‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬ريثما‭ ‬يصل‭ ‬الخطيب،‭ ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬يزداد‭ ‬الوضع‭ ‬سوءاً‭ ‬ويكثر‭ ‬تعداد‭ ‬أصحاب‭ ‬الهمم‭ ‬العالية‭ ‬من‭ ‬متخطي‭ ‬رقاب‭ ‬المصلين‭ ‬ممن‭ ‬تجزم‭ ‬بأنهم‭ ‬غادروا‭ ‬السرير‭ ‬للتو‭ ‬وأتوا‭ ‬بملابس‭ ‬النوم‭ ‬لحضور‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة،‭ ‬حتى‭ ‬أضحى‭ ‬الوضع‭ ‬مزعجاً‭ ‬بشدة‭ ‬وينم‭ ‬عن‭ ‬سوء‭ ‬خلق‭ ‬وصلافة‭ ‬تكاد‭ ‬تقودك‭ ‬للاشتباك‭ ‬والاحتجاج‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬تتدارك‭ ‬نفسك‭ ‬وتتعوذ‭ ‬من‭ ‬الشيطان‭ ‬الرجيم‭.‬

وصل‭ ‬الإمام‭ ‬وبدأ‭ ‬الخطبة‭ ‬التي‭ ‬خصصها‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬أخذ‭ ‬العبرة‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬عندها‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬خصص‭ ‬الخطيب‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬أيضاً‭ ‬لوعظ‭ ‬المصلين‭ ‬بضرورة‭ ‬تطبيق‭ ‬مقاصد‭ ‬الإسلام‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬يعيشون‭ ‬بها‭ ‬حياتهم‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل،‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬خطبته‭ ‬لإيضاح‭ ‬أن‭ ‬المسلم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نموذجاً‭ ‬حياً‭ ‬لدينه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أموره،‭ ‬في‭ ‬قيادته‭ ‬سيارته،‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الناس،‭ ‬في‭ ‬احترامه‭ ‬القوانين‭ ‬وأن‭ ‬الدين‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬عبادات‭ ‬وطقوس‭ ‬نجعلها‭ ‬غاية‭ ‬يجب‭ ‬علينا‭ ‬فعلها‭ ‬ولا‭ ‬نكون‭ ‬ملزمين‭ ‬بعدها‭ ‬بأي‭ ‬شيء،‭ ‬تمنيت‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬أذيتك‭ ‬أو‭ ‬تعريضك‭ ‬أي‭ ‬إنسان‭ ‬للخطر‭ ‬هو‭ ‬كبيرة‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير‭ ‬وأهم‭ ‬من‭ ‬حرصك‭ ‬على‭ ‬تأدية‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬فريضة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬بإمكانك‭ ‬أداؤها‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أذية‭ ‬الآخرين،‭ ‬تمنيت‭ ‬وتمنيت‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬وسرحت‭ ‬بخيالاتي‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬كلمة‭ ‬الموت‭ ‬هي‭ ‬الكلمة‭ ‬الأكثر‭ ‬تكراراً‭ ‬في‭ ‬خطبة‭ ‬الخطيب‭.‬

وما‭ ‬إن‭ ‬فرغنا‭ ‬من‭ ‬الخطبة‭ ‬والصلاة‭ ‬حتى‭ ‬قام‭ ‬الخطيب‭ ‬ليقول‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬لديه‭ ‬ملاحظة‭ ‬مهمة‭ ‬جداً‭ ‬وإنه‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الاستياء‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬المصلين‭ ‬هداهم‭ ‬الله،‭ ‬عندها‭ ‬استبشرت‭ ‬خيراً‭ ‬وجزمت‭ ‬بأنه‭ ‬سيذكر‭ ‬ولو‭ ‬شيئاً‭ ‬بسيطاً‭ ‬مما‭ ‬نلاحظه‭ ‬ونعانيه‭ ‬في‭ ‬طرقاتنا‭ ‬ومساجدنا‭ ‬وكل‭ ‬حياتنا،‭ ‬وبينما‭ ‬كنت‭ ‬مستغرقاً‭ ‬في‭ ‬طموحاتي‭ ‬وأحلام‭ ‬يقظتي‭ ‬استطرق‭ ‬الخطيب‭ ‬بلومه‭ ‬الشديد‭ ‬لبعض‭ ‬المصلين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يستقيمون‭ ‬في‭ ‬صفوفهم‭ ‬خلال‭ ‬تأدية‭ ‬الصلاة‭ ‬وأن‭ ‬ذلك‭ ‬كفيل‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬الله‭ ‬يخالف‭ ‬بين‭ ‬قلوبهم،‭ ‬رغبت‭ ‬حينها‭ ‬لو‭ ‬صدحت‭ ‬له‭ ‬بالمسجد‭ ‬بأننا‭ ‬قوم‭ ‬قد‭ ‬خالف‭ ‬الله‭ ‬قلوبنا‭ ‬فعلاً‭ ‬حتى‭ ‬صرنا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬الدين‭ ‬إلا‭ ‬طقوسه‭ ‬ولا‭ ‬نعيشه‭ ‬فعلاً‭ ‬كأسلوب‭ ‬حياة‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وصحابته‭ ‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬عليهم‭ ‬يعيشونه‭ ‬فسادوا‭ ‬العالم،‭ ‬لكنني‭ ‬بالطبع‭ ‬لم‭ ‬أفعل‭ ‬واكتفيت‭ ‬بالخروج‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬مع‭ ‬أبنائي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اجتزنا‭ ‬محنة‭ ‬التزاحم‭ ‬والسير‭ ‬على‭ ‬أكوام‭ ‬من‭ ‬الأحذية‭ ‬المبعثرة‭ ‬أكرمكم‭ ‬الله‭.‬

سرنا‭ ‬لمنزلنا‭ ‬ولم‭ ‬أنبس‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬طريقي،‭ ‬وإذ‭ ‬بابني‭ ‬الأكبر‭ ‬يبدد‭ ‬صمتنا‭ ‬بسؤاله‭ ‬“لماذا‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬لا‭ ‬يحدثنا‭ ‬خطيب‭ ‬المسجد‭ ‬كيف‭ ‬نعيش‭ ‬حياتنا‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬كيف‭ ‬نموت؟”‭.‬