الوضع الليبي لا يحتمل تدخلا عسكريا

| سالم الشوبكي

منذ‭ ‬نحو‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬ليبيا‭ ‬طعم‭ ‬الاستقرار؛‭ ‬فبعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬دخلت‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة،‭ ‬مرحلة‭ ‬عنوانها‭ ‬وواقعها‭ ‬التشظي‭ ‬والانقسام،‭ ‬حَوَّلت‭ ‬خلالها‭ ‬الميليشيات‭ ‬أجزاءَ‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬نفوذ‭ ‬لها،‭ ‬يحكمها‭ ‬ويتحكّم‭ ‬في‭ ‬مواردها‭ ‬ومصيرها‭ ‬أمراء‭ ‬حرب‭ ‬كل‭ ‬همهم‭ ‬بقاء‭ ‬الوضع‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬مهما‭ ‬كلّف‭ ‬الأمر،‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬ليبيا‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬بيئة‭ ‬جاذبة‭ ‬للإرهاب‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬الهزائم‭ ‬التي‭ ‬مُني‭ ‬بها‭ ‬تنظيم‭ ‬داعش‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬منطلقا‭ ‬للهجرة‭ ‬غير‭ ‬القانونية،‭ ‬ينشطُ‭ ‬فيها‭ ‬تجار‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬يكدِّسون‭ ‬الناس‭ ‬بقوارب‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬رحلةٍ‭ ‬تحفُها‭ ‬المخاطر‭ ‬عبر‭ ‬المتوسط‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭. ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬المعقّد‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬أفريقي‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬أوروبا،‭ ‬غني‭ ‬بالموارد‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وذي‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وحدود‭ ‬ممتدة‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬عدة،‭ ‬وتداعياته‭ ‬على‭ ‬الليبيين‭ ‬أنفسهم‭ ‬وعلى‭ ‬دول‭ ‬الجوار،‭ ‬جعل‭ ‬الرغبة‭ ‬تتوحد‭ ‬لحلحلة‭ ‬الوضع؛‭ ‬لكن‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬تُفلح‭ ‬جميع‭ ‬الجهود‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الحثيثة‭ ‬والمتواصلة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬السكة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تفضي‭ ‬في‭ ‬محطاتها‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬سياسي‭ ‬يَقضي‭ ‬على‭ ‬مظاهر‭ ‬الانفلات‭ ‬الأمني‭ ‬والانتشار‭ ‬الميليشياوي،‭ ‬ويستعيد‭ ‬للدولة‭ ‬هيبتها‭ ‬ومؤسساتها‭.‬

ويرى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المراقبين‭ ‬والمهتمين‭ ‬بالشأن‭ ‬الليبي‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬الفشل‭ ‬هو‭ ‬اختطاف‭ ‬الميليشيات‭ ‬المسلحة‭ - ‬المدعومة‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬خارجية‭- ‬قرار‭ ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬السياسية،‭ ‬لتكون‭ ‬محض‭ ‬أدوات‭ ‬معطلة‭ ‬لكل‭ ‬الجهود‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬أو‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ ‬التي‭ ‬تتضرّر‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬استمرار‭ ‬الأزمة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬حقق‭ ‬الجيش‭ ‬الوطني‭ ‬الليبي‭ ‬بقيادة‭ ‬المشير‭ ‬خليفة‭ ‬حفتر‭ ‬انتصارات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬عدة،‭ ‬وألحق‭ ‬هزائم‭ ‬كبيرة‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬التنظيمات‭ ‬الإرهابية‭ ‬التي‭ ‬وَجدت‭ ‬لها‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬الليبية؛‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬تنظيم‭ ‬داعش،‭ ‬وقبل‭ ‬أشهر‭ ‬التفت‭ ‬الجيش‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬تحرير‭ ‬العاصمة‭ ‬طرابلس؛‭ ‬فبدأ‭ ‬عملية‭ ‬تطهيرها‭ ‬من‭ ‬المليشيات‭ ‬التي‭ ‬تسيطر‭ ‬عليها،‭ ‬وضيق‭ ‬الخناق‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬كيلومترات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬العاصمة،‭ ‬ومع‭ ‬دخول‭ ‬العملية‭ ‬مرحلتها‭ ‬الحاسمة،‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬جاء‭ ‬القرار‭ ‬التركي‭ ‬بإرسال‭ ‬قوات‭ ‬عسكرية‭ ‬إلى‭ ‬ليبيا،‭ ‬بموجب‭ ‬اتفاق‭ ‬وقع‭ ‬مع‭ ‬حكومة‭ ‬الوفاق،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬القرار‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬لعبته‭ ‬تركيا‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية؛‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يثير‭ ‬علامات‭ ‬استفهام‭ ‬كبيرة‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬تريده‭ ‬أنقرة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬العربي‭ ‬الغارق‭ ‬أصلا‭ ‬في‭ ‬الصراعات؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تحاول‭ ‬إفشال‭ ‬عمليات‭ ‬الجيش‭ ‬الوطني؟‭ ‬وهل‭ ‬تسعى‭ ‬لتمكين‭ ‬طرف‭ ‬معين‭ ‬وتقوية‭ ‬شوكته؟‭ ‬وهل‭ ‬تتطلع‭ ‬إلى‭ ‬بقاء‭ ‬عسكري‭ ‬طويل‭ ‬الأمد؟‭ ‬ثم‭ ‬هل‭ ‬المآرب‭ ‬تتعدى‭ ‬ليبيا؟

قوبل‭ ‬قرار‭ ‬تركيا‭ ‬برفضِ‭ ‬وتنديدِ‭ ‬عموم‭ ‬الليبيين،‭ ‬ووصفه‭ ‬البرلمان‭ ‬بالاحتلال‭ ‬وصوت‭ ‬على‭ ‬اعتباره‭ ‬لاغيا،‭ ‬كما‭ ‬لقي‭ ‬إدانة‭ ‬عربية‭ ‬كونه‭ ‬تدخلا‭ ‬سافرا‭ ‬لا‭ ‬يسهم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬تعقيد‭ ‬الأوضاع،‭ ‬ولا‭ ‬يزيد‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬زعزعة‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار،‭ ‬ما‭ ‬ينذر‭ ‬بإطالة‭ ‬أمد‭ ‬الأزمة،‭ ‬ويصعِّب‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬إيجاد‭ ‬حلول‭ ‬لها‭. ‬وإضافة‭ ‬لما‭ ‬يمثله‭ ‬التدخل‭ ‬التركي‭ ‬من‭ ‬انتهاك‭ ‬للسيادة‭ ‬الليبية‭ ‬فإنه‭ ‬ينطوي‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬تهديد‭ ‬لأمن‭ ‬دول‭ ‬الجوار،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬جمهورية‭ ‬مصر‭ ‬العربية؛‭ ‬فوجود‭ ‬قوات‭ ‬تركية‭ ‬في‭ ‬الجارة‭ ‬الغربية‭ ‬لمصر‭ ‬تهديد‭ ‬لأمنها‭ ‬القومي،‭ ‬يمتد‭ ‬لتهديد‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬برمته‭.‬