المثقف العربي ومعادلة الاضطراب الفكري (2)

| مأمون شحادة

انشطار‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بين‭ ‬مثقّف‭ ‬يؤيّد‭ ‬النّظام‭ ‬وآخر‭ ‬يؤيّد‭ ‬الحراك‭ ‬العربي‭ ‬الشعبي،‭ ‬أظهر‭ ‬كمّاً‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬المعضلات‭ ‬الفكرية،‭ ‬التي‭ ‬أنهكت‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬مدّاً‭ ‬وجزراً،‭ ‬كلّ‭ ‬يرخي‭ ‬بظلاله‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬فالمحصلة‭ ‬واضحة‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬غربال‭ ‬فضفاض‭ ‬تترامى‭ ‬أطرافه‭ ‬الدائرية‭ ‬بين‭ ‬كسر‭ ‬الأنا‭ ‬والآخر،‭ ‬مُظْهِرة‭ ‬تراكمات‭ ‬مثقّف‭ ‬ينحصر‭ ‬بين‭ ‬تبعية‭ ‬إقليمية‭ ‬ودولية‭ ‬تُساند‭ ‬الأنظمة‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والحراك‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى،‭ ‬في‭ ‬دلالةٍ‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬تَرهُّل‭ ‬تلك‭ ‬التراكمات،‭ ‬التي‭ ‬تجسّدت‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬تغذّت‭ ‬على‭ ‬الشعبوية،‭ ‬لترسم‭ ‬حاضراً‭ ‬أكثر‭ ‬فداحة،‭ ‬وكأنّ‭ ‬المثقّف‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التيه،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬بناء‭ ‬معادلة‭ ‬الدّولة‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رؤية‭ ‬مَن‭ ‬يرسم‭ ‬طريق‭ ‬التبعية‭ ‬للآخر‭.‬

معادلة‭ ‬انشطار‭ ‬الثقافة‭ ‬لم‭ ‬تقِف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ،‭ ‬بل‭ ‬تجاوزت‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتوقّعه‭ ‬العقل،‭ ‬حيث‭ ‬ظهرت‭ ‬حلقات‭ ‬المصارعة‭ ‬الفكرية،‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬مباشرة،‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬النُّخبة‭ ‬المثقّفة،‭ ‬الذين‭ ‬تعاركوا‭ ‬بالأيدي،‭ ‬وهُم‭ ‬يشتمون‭ ‬بعضهم‭ ‬بألفاظٍ‭ ‬نابية،‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬إحداث‭ ‬شرخ‭ ‬عميق‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬وتلك‭ ‬النُّخب‭.‬

هنا‭ ‬يتوقّف‭ ‬الفرد‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬يجهل‭ ‬اتّجاهاتها،‭ ‬معتبراً‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التيه‭ ‬والضياع،‭ ‬وقد‭ ‬توصَّل‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬التنظير‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬التطبيق،‭ ‬وأنّ‭ ‬الشعارات‭ ‬كافّة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُرفَع،‭ ‬هي‭ ‬مجرّد‭ ‬نظريات‭ ‬فارغة‭ ‬المضمون‭. ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬المحطّات‭ ‬المُشبعة‭ ‬بإشكاليات‭ ‬سلوك‭ ‬المثقّف،‭ ‬نتوقّف‭ ‬عند‭ ‬“التباعد‭ ‬الثقافي”‭ ‬بين‭ ‬مشرق‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬ومغربه،‭ ‬وكأنّه‭ ‬معادلة‭ ‬انفصال‭ ‬مُبهمة‭ ‬العناصر،‭ ‬فهل‭ ‬يتحمّل‭ ‬المثقّف‭ ‬مسؤولية‭ ‬ذلك؟

من‭ ‬الأخطاء‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬فيها‭ ‬مثقّفنا،‭ ‬استمرارية‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬تثاقفية‭ ‬تُقارِب‭ ‬بين‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬والمجتمعات‭ ‬الأخرى،‭ ‬متجاهلاً‭ ‬نصف‭ ‬ذاته‭ ‬المختطَفة‭ ‬المتشظّية‭ ‬بين‭ ‬المشرق‭ ‬والمغرب،‭ ‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬السرابي‭ ‬العقيم‭ ‬والهروب‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬واقعه،‭ ‬وجب‭ ‬عليه‭ ‬إيجاد‭ ‬استمرارية‭ ‬تقاربية‭ ‬للذات،‭ ‬لكي‭ ‬يفهمنا‭ ‬الآخر‭.‬

بالتأكيد‭ ‬إنّ‭ ‬هذا‭ ‬النّهج‭ ‬الثقافي‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬هوّة‭ ‬التباعد‭ ‬والتنافر‭ ‬تحت‭ ‬مسمّيات‭ ‬الدّولة‭ ‬القُطرية‭ ‬والأصل‭ ‬التكويني‭ ‬لها،‭ ‬مكوِّناً‭ ‬معادلة‭ ‬ثقافية‭ ‬وهميّة‭ ‬مبتعدة‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬التقارب‭. ‬ثمّة‭ ‬سؤال‭ ‬يرتفع‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬الفرد‭ ‬العربي،‭ ‬ألَم‭ ‬تضطلع‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بدورٍ‭ ‬فعّال‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬رَدم‭ ‬الهوّة‭ ‬الثقافية‭ ‬بين‭ ‬مشرق‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬ومغربه؟

نعم،‭ ‬اضطلعَت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬كبير،‭ ‬بهذا‭ ‬الدَّور‭ ‬القومي،‭ ‬غير‭ ‬أنّها‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬وقَعت‭ ‬في‭ ‬الهوّة‭ ‬ذاتها،‭ ‬جرّاء‭ ‬الانفصال‭ ‬المؤلم‭ ‬بين‭ ‬الضفّة‭ ‬الغربية‭ ‬وقطاع‭ ‬غزّة‭. ‬فالتخوّفات‭ ‬تتّجه‭ ‬نحو‭ ‬بزوغ‭ ‬ثقافة‭ ‬وهميّة‭ ‬تفصل‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬استمرّ‭ ‬الانفصال،‭ ‬ليتبيَّن‭ ‬أنّ‭ ‬النُّخب‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬محكّ‭ ‬التنافر‭ ‬القُطري،‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬رَسْم‭ ‬طريق‭ ‬التكامل‭ ‬الثقافي،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬الهوّة‭ ‬تزداد‭ ‬عمقاً‭ ‬وامتداداً‭ ‬نحو‭ ‬تَجزئة‭ ‬المُجزَّأ‭ ‬وتفتيت‭ ‬المُفتَّت‭.‬