المثقف العربي ومعادلة الاضطراب الفكري (1)

| مأمون شحادة

لم‭ ‬تكُن‭ ‬مُعادَلة‭ ‬الاضطراب‭ ‬الفكري‭ ‬واضحة‭ ‬أمام‭ ‬المثقّف‭ ‬العربي،‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬مُتناثِرة‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬المجالات‭ ‬الحياتيّة،‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬القبعة‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬جعبة‭ ‬الأفكار‭ ‬وامتدادها‭ ‬الاجتماعي‭.‬

يقف‭ ‬مثقّف‭ ‬أمّة‭ ‬الضّاد‭ ‬أمام‭ ‬واقعٍ‭ ‬ضبابيّ،‭ ‬وأمام‭ ‬حِقَب‭ ‬مضت‭ ‬بعناوين‭ ‬كثيرة‭ ‬حُملت‭ ‬على‭ ‬سفينةٍ‭ ‬تلاطمها‭ ‬الأمواج،‭ ‬بغضّ‭ ‬النّظر‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬ترسو‭ ‬فيه؛‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬سخونة‭ ‬الأجواء‭ ‬السياسيّة‭ ‬عصفت‭ ‬بشراعها،‭ ‬ليصبح‭ ‬المثقّف‭ ‬أسير‭ ‬واقعه‭ ‬وماضيه،‭ ‬باحثاً‭ ‬عن‭ ‬معادلة‭ ‬نقد‭ ‬الذّات‭ ‬والواقع‭ ‬والتاريخ‭. ‬حالة‭ ‬الجمود‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬طبقة‭ ‬المثقّفين‭ ‬العرب‭ ‬أرخَت‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‭ ‬جرّاء‭ ‬التغنّي‭ ‬بتجارب‭ ‬الحراك‭ ‬العالَمي‭ ‬وعلى‭ ‬رأسه‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭.‬

الفصام‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬تلك‭ ‬الطبقة‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬ازدواجية‭ ‬الرؤية‭ ‬تجاه‭ ‬الثورات‭ ‬العالمية،‭ ‬قياساً،‭ ‬وأضاف‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬حالة‭ ‬مُبهَمة‭ ‬ضبابية‭ ‬عَصفت‭ ‬بالفكر‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬الهاوية؛‭ ‬لأنّ‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬التشكّل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أنّ‭ ‬لكلّ‭ ‬مجتمع‭ ‬خصائصه‭ ‬وثقافته‭ ‬المحدّدة،‭ ‬فالعِلم‭ ‬يمكن‭ ‬الحصول‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬مكان،‭ ‬أمّا‭ ‬الثقافة‭ ‬فلها‭ ‬خصوصيات،‭ ‬وأهل‭ ‬مكّة‭ ‬أدرى‭ ‬بشعابها‭.‬

الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لها‭ ‬ظروفها‭ ‬وثقافتها‭ ‬المجتمعيّة،‭ ‬والحراك‭ ‬العربي‭ ‬له‭ ‬ظروفه‭ ‬وثقافته،‭ ‬والمقاربة‭ ‬بين‭ ‬الحالتَين‭ ‬سذاجة‭ ‬كبيرة‭ ‬واستهانة‭ ‬بالعقول،‭ ‬ويجب‭ ‬معرفة‭ ‬أنّ‭ ‬الغرب‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يتحرّر،‭ ‬كان‭ ‬يُصدِّر‭ ‬مشكلاته‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬حدوده‭ ‬الإقليمية،‭ ‬بعكس‭ ‬الحالة‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تستورد‭ ‬كلّ‭ ‬مشكلات‭ ‬الدّول‭ ‬المحيطة‭ ‬والعالمية،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنّها‭ ‬تحوّلت‭ ‬من‭ ‬قضية‭ ‬راسخة‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬تنتظر‭ ‬الحلول‭ ‬كافّة‭.‬

التجارب‭ ‬التي‭ ‬عَصفَت‭ ‬بالمثقّف‭ ‬العربي‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتنوّعة،‭ ‬فـ‭ ‬“مثقّف”‭ ‬اليسار‭ ‬والاشتراكية‭ ‬والشيوعية‭ ‬ينادي‭ ‬بشعارات‭ ‬هُزمت‭ ‬في‭ ‬موطنها‭ ‬الأصلي،‭ ‬فتلك‭ ‬التجارب‭ ‬بعيدة‭ ‬كلّ‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬التجربة‭ ‬العربية،‭ ‬سلوكاً،‭ ‬وتوجّهاً‭ ‬ومضموناً‭.‬

والمثقّف‭ ‬الإسلامي‭ ‬يتبنى‭ ‬شعارات‭ ‬يُختلف‭ ‬عليها‭ ‬بين‭ ‬الراديكالية‭ ‬والسلفية‭ ‬والدعوية،‭ ‬حتى‭ ‬مَن‭ ‬يُنادون‭ ‬بالتجربة‭ ‬الأردوغانية،‭ ‬ينبذون‭ ‬شعار‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬بلدانهم،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أنّ‭ ‬الجمهورية‭ ‬التركية‭ ‬بُنيت‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬هذا‭ ‬الشعار‭ ‬ومازالت‭ ‬متمسكة‭ ‬به‭ ‬حتّى‭ ‬الآن‭.‬

أمّا‭ ‬مثقف‭ ‬القومية‭ ‬العربية،‭ ‬فيقرأ‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬وفقاً‭ ‬للفصل‭ ‬بين‭ ‬متطلّبات‭ ‬القومية،‭ ‬ويحاول‭ ‬بناء‭ ‬تاريخ‭ ‬فوق‭ ‬التاريخ،‭ ‬مُتجاهِلاً‭ ‬التاريخ‭ ‬المشترك،‭ ‬وتجاربه‭ ‬التي‭ ‬توجز‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مستقبل‭ ‬مُبهَم‭ ‬يتطلّع‭ ‬إليه‭.‬

كذلك‭ ‬المثقّف‭ ‬الليبرالي،‭ ‬يتبنّى‭ ‬أفكاراً‭ ‬مُستنسَخة‭ ‬عن‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتواءم‭ ‬حتّى‭ ‬الآن‭ ‬وثقافة‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬ناهيك‭ ‬بالمثقّف‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬أنّ‭ ‬الديمقراطية‭ ‬عصا‭ ‬سحرية‭ ‬تُلائِم‭ ‬المجتمعات‭ ‬كافّة‭ ‬والقائمة‭ ‬طويلة‭.‬