زبدة القول

انتهاك إنسانية الإنسان

| د. بثينة خليفة قاسم

كنا‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬مفهوم‭ ‬السيادة‭ ‬وسيطرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬حدودها‭ ‬وسماواتها‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬بسبب‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الاتصال‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬قهرت‭ ‬الحدود‭ ‬وقهرت‭ ‬السيادة‭ ‬وجعلت‭ ‬مفهومها‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬حدود‭ ‬الدول‭ ‬وسماواتها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تخترق‭ ‬فقط،‭ ‬لكن‭ ‬أصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬الفرد‭ ‬نفسه‭ ‬موضوع‭ ‬اختراق‭ ‬وانتهاك‭ ‬لخصوصيته‭ ‬وآدميته‭ ‬بشكل‭ ‬يجعله‭ ‬مثل‭ ‬الروبوت‭. ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يمر‭ ‬يوم‭ ‬إلا‭ ‬وتأتينا‭ ‬رسالة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬هواتفنا‭ ‬تحذرنا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬حساباتنا‭ ‬مخترقة‭ ‬وأنه‭ ‬تم‭ ‬أخذ‭ ‬بياناتنا‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحسابات‭ ‬لكي‭ ‬تقوم‭ ‬شركات‭ ‬معينة‭ ‬ببيعها‭ ‬لشركات‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬هيئات‭ ‬أو‭ ‬أجهزة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستفادة‭ ‬منها‭ ‬فيما‭ ‬يفيد‭ ‬هذه‭ ‬الأجهزة‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬من‭ ‬الزوايا،‭ ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الفائدة‭ ‬اقتصادية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬أمنية‭.‬

ونحن‭ ‬حتى‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬نلوم‭ ‬إلا‭ ‬أنفسنا،‭ ‬فنحن‭ ‬الذين‭ ‬نقوم‭ ‬بوضع‭ ‬كل‭ ‬أسرارنا‭ ‬وكل‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭ ‬وكل‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬نحبها‭ ‬والتي‭ ‬نكرهها‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وجودنا‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬لا‭ ‬نلوم‭ ‬إلا‭ ‬أنفسنا‭ ‬طالما‭ ‬أننا‭ ‬نساهم‭ ‬بعلم‭ ‬أو‭ ‬جهل‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تدمير‭ ‬خصوصيتنا‭ ‬بأنفسنا‭. ‬لكن‭ ‬الطامة‭ ‬الكبرى‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬مرغما‭ ‬على‭ ‬فقدان‭ ‬خصوصيته‭ ‬وإنسانيته،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬سيفقد‭ ‬مصدر‭ ‬رزقه‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬منه،‭ ‬فقد‭ ‬ابتكرت‭ ‬شركة‭ ‬أميركية‭ ‬نظاما‭ ‬حديثا‭ ‬لمراقبة‭ ‬الموظفين‭ ‬أثناء‭ ‬عملهم‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بطاقة‭ ‬صغيرة‭ ‬تعلق‭ ‬في‭ ‬رقبة‭ ‬كل‭ ‬موظف‭ ‬كجهاز‭ ‬إرسال‭ ‬يقوم‭ ‬بنقل‭ ‬كل‭ ‬حركاته‭ ‬وسكناته‭ ‬منذ‭ ‬دخوله‭ ‬إلى‭ ‬العمل،‭ ‬سواء‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬مكتبه‭ ‬أو‭ ‬وهو‭ ‬يتواصل‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬زميل‭ ‬أو‭ ‬زميلة‭.‬

وتقول‭ ‬هذه‭ ‬الشركة‭ ‬إنه‭ ‬يتم‭ ‬تجميع‭ ‬المعلومات‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬البيانات‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬البريد‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬ونقوم‭ ‬بتحليلها‭ ‬لتكوين‭ ‬صورة‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬الموظف‭ ‬وسلوكه‭ ‬وكيفية‭ ‬قضائه‭ ‬وقت‭ ‬العمل،‭ ‬وتحتفظ‭ ‬الشركة‭ ‬لنفسها‭ ‬بهذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬لتطلع‭ ‬أصحاب‭ ‬العمل‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المعلومات،‭ ‬وتقوم‭ ‬الشركة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬ببيع‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬بالترويج‭ ‬لبضاعتها‭ ‬بالقول‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬للانزعاج،‭ ‬فالهدف‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬زيادة‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬وإن‭ ‬مئات‭ ‬الشركات‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬قامت‭ ‬بشراء‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭. ‬

فما‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬إنسانية‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬المرعبة؟‭ ‬ماذا‭ ‬بقي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتهك‭ ‬جسده‭ ‬وعقله‭ ‬وذاكرته‭ ‬وأصبح‭ ‬بمثابة‭ ‬روبوت‭ ‬يقوم‭ ‬بتأدية‭ ‬عمله‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬شعور‭ ‬أو‭ ‬علاقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬مع‭ ‬غيره؟‭.‬