فجر جديد

حكاية المتقاعد و “طيور الحمام”

| إبراهيم النهام

بعد‭ ‬قضائي‭ ‬صلاة‭ ‬ظهر‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬الماضية‭ ‬بقلالي‭ ‬وأثناء‭ ‬عبوري‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬الساحات‭ ‬الكبيرة‭ ‬الفضاء‭ ‬القريبة،‭ ‬رأيت‭ ‬لوحة‭ ‬ربانية‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها،‭ ‬فعلاوة‭ ‬على‭ ‬الطقس‭ ‬الجميل‭ ‬ساعتها،‭ ‬تغطت‭ ‬هذه‭ ‬الساحة‭ ‬المفتوحة‭ ‬بكميات‭ ‬كبيرة‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬طيور‭ ‬الحمام‭ ‬وهي‭ ‬تتناول‭ ‬بقايا‭ ‬الرز،‭ ‬وفتات‭ ‬الخبز،‭ ‬التي‭ ‬تُركت‭ ‬لأجلها‭.‬

وبلفتة‭ ‬من‭ ‬الصديق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يصاحبني،‭ ‬قال‭ ‬وهو‭ ‬يتأمل‭ ‬المشهد‭ ‬“هنالك‭ ‬جمع‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬قلالي،‭ ‬يعرجون‭ ‬يوميًا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الساحة،‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر؛‭ ‬لترك‭ ‬الطعام‭ ‬للطيور،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬منها‭ ‬شيئًا‭ ‬بفضل‭ ‬من‭ ‬الله،‭ ‬هؤلاء‭ ‬السعاة‭ ‬للخير،‭ ‬هم‭ ‬أنموذج‭ ‬لشعب‭ ‬البحرين‭ ‬الطيب،‭ ‬والذي‭ ‬يستشهد‭ ‬به‭ ‬دائمًا‭ ‬بدماثة‭ ‬خلقه”‭.‬

ويزيد‭ ‬“كانت‭ ‬الطيور‭ ‬التي‭ ‬تتوافد‭ ‬للساحة‭ ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬العشرات‭ ‬فقط،‭ ‬لكني‭ ‬أؤكد‭ ‬لك‭ ‬أنها‭ ‬تتجاوز‭ ‬الآن‭ ‬ألفي‭ ‬طير‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬تأكل‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬طعام،‭ ‬ترمى‭ - ‬بحكم‭ ‬العادة‭ - ‬من‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مكب‭ ‬النفايات،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يستفاد‭ ‬منها”‭.‬

هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬الجميلة،‭ ‬ذكرتني‭ ‬بواقعة‭ ‬أخرى،‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أقطن‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عيسى‭ ‬العام‭ ‬2008،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬هنالك‭ ‬ساحة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬مقر‭ ‬سكني،‭ ‬تعج‭ ‬بالطيور‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر‭ ‬يوميًا‭ ‬بمشهد‭ ‬مشابه‭ ‬لهذا،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يترك‭ ‬لها‭ ‬الطعام‭ ‬رجل‭ ‬مُسن‭ ‬ومتقاعد‭ ‬ومحبوب‭ ‬بالحي‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام،‭ ‬توقفت‭ ‬الطيور‭ ‬عن‭ ‬التوافد‭ ‬للساحة‭ ‬بشكل‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي،‭ ‬وحين‭ ‬سألت‭ ‬عن‭ ‬السبب،‭ ‬قيل‭ ‬لي‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬قد‭ ‬توفي،‭ ‬بعدها‭ ‬بأيام‭ ‬قليلة،‭ ‬بدأ‭ ‬أهالي‭ ‬الحي‭ ‬باستكمال‭ ‬مسيرته‭ ‬الخيرة‭ ‬هذه،‭ ‬ومعها‭ ‬بدأت‭ ‬الطيور‭ ‬بالعودة‭ ‬للساحة‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

وما‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الحكايات‭ ‬الجميلة‭ ‬والتي‭ ‬تقدم‭ ‬لنا‭ ‬نماذج‭ ‬إنسانية‭ ‬تجعلنا‭ ‬نشعر‭ ‬بالضعف،‭ ‬وبالتقصير،‭ ‬وبالوهن،‭ ‬وربما‭ ‬الخجل،‭ ‬من‭ ‬تأخرنا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نفعل‭ ‬مثلها‭ ‬وربما‭ ‬أفضل،‭ ‬هنالك‭ - ‬بالمُقابل‭ - ‬مخلوقات‭ ‬بشرية‭ ‬قلوبها‭ ‬مغطاه‭ ‬بــ‭ ‬“الران”‭ ‬الأسود،‭ ‬ديدنها‭ ‬الأول‭ ‬قطع‭ ‬الأرزاق،‭ ‬وهدم‭ ‬الأسر،‭ ‬واللهث‭ ‬لإزالة‭ ‬نعمة‭ ‬الغير‭.‬