مكافحة الفكر الضال (4 - 5)

| عادل عيسى المرزوق

عندما‭ ‬جاء‭ ‬المخرج‭ ‬العالمي‭ ‬يوسف‭ ‬شاهين‭ ‬بفيلمه‭ ‬النادر‭ ‬“عودة‭ ‬الابن‭ ‬الضال”،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬جعبته‭ ‬مفاجأة‭ ‬للناس،‭ ‬لكن‭ ‬ابنه‭ ‬الذي‭ ‬هاجر،‭ ‬ثم‭ ‬قرر‭ ‬فجأة‭ ‬أن‭ ‬يعود،‭ ‬ابنه‭ ‬الذي‭ ‬رفض‭ ‬المجتمع‭ ‬وسافر‭ ‬لكي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬أفضل،‭ ‬وابنه‭ ‬الذي‭ ‬شذّ‭ ‬عن‭ ‬عادات‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬بفكر‭ ‬مناهض‭ ‬لهذه‭ ‬البيئة،‭ ‬كان‭ ‬يمثل‭ ‬نقلة‭ ‬صارخة‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬تابوت‭ ‬التفكير‭ ‬النوعي‭ ‬لدى‭ ‬النخب‭ ‬المتفكرة‭ ‬في‭ ‬“خلق‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭ ‬واختلاف‭ ‬الليل‭ ‬والنهار”،‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬تشرق‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬آن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نتوقع‭ ‬شروقها‭ ‬من‭ ‬الغرب،‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬تغرب‭ ‬من‭ ‬الليل،‭ ‬آن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تغرب‭ ‬مع‭ ‬الشروق‭.‬

عالم‭ ‬متداخل‭ ‬للحد‭ ‬الذي‭ ‬يحفز‭ ‬مداخل‭ ‬التفكير،‭ ‬ويستنفر‭ ‬أصول‭ ‬المعارف‭ ‬لكي‭ ‬تتحرك‭ ‬باتجاه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬معقولًا‭.‬

الابن‭ ‬الضال‭ ‬عاد‭ ‬بفكر‭ ‬ضال،‭ ‬والأب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتظره‭ ‬على‭ ‬أحر‭ ‬من‭ ‬الجمر،‭ ‬كانت‭ ‬خيبة‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬انتظاره،‭ ‬وضياع‭ ‬الرجاء‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬بيته‭ ‬البسيط‭.‬

يوسف‭ ‬شاهين‭ ‬لم‭ ‬يندم‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬السينمائي‭ ‬الفريد،‭ ‬لكنه‭ ‬أخرج‭ ‬فأر‭ ‬تجارب‭ ‬من‭ ‬سترته‭ ‬المرتقة،‭ ‬المخرج‭ ‬آثر‭ ‬أن‭ ‬ينفض‭ ‬هذا‭ ‬الركام‭ ‬من‭ ‬ثوب‭ ‬أكتاف‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬وقرر‭ ‬فجأة‭ ‬أن‭ ‬يسطر‭ ‬تاريخًا‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬بالفن‭ ‬السابع‭ ‬عن‭ ‬تغيير‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬الغرب،‭ ‬عن‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬متقدمة‭ ‬ربما،‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬رافض‭ ‬لإرث‭ ‬مجتمعي‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬التلقين‭ ‬والتقليد‭ ‬والتكرار‭ ‬الممل‭ ‬والمُخل،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬به،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬ظل‭ ‬الفيلم‭ ‬حبيس‭ ‬التسويق‭ ‬المتحفظ،‭ ‬وظلت‭ ‬أفكاره‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بالتغيير‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬مضض‭.‬

عودة‭ ‬الابن‭ ‬الضال‭ ‬بفكر‭ ‬ضال‭ ‬كانت‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬إعداد‭ ‬وتجهيز‭ ‬المجتمع‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬هول‭ ‬المفاجأة،‭ ‬فالكل‭ ‬كان‭ ‬يتوقع‭ ‬رحلة‭ ‬كفاح‭ ‬مُشرفة‭ ‬أشبه‭ ‬بتلك‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬السير‭ ‬مجدي‭ ‬يعقوب‭ ‬وهو‭ ‬يغادر‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬معذبًا‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬وهو‭ ‬محمل‭ ‬بالأوسمة‭ ‬والنياشين،‭ ‬وكان‭ ‬المشاهد‭ ‬متوقعًا‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬الابن‭ ‬الضال‭ ‬بنوبل‭ ‬في‭ ‬الكيمياء‭ ‬أو‭ ‬الفيزياء‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬العالم‭ ‬المصري‭ ‬الراحل‭ ‬أحمد‭ ‬زويل،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬التوقع‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬اعتاد‭ ‬الانتصار‭ ‬في‭ ‬المهجر‭ ‬والهزيمة‭ ‬في‭ ‬الوطن،‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬و”الكسل”‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬الانطلاق‭ ‬خارج‭ ‬الحدود،‭ ‬وارتكاب‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬داخله‭.‬

لم‭ ‬يتعود‭ ‬المشاهد‭ ‬على‭ ‬عودة‭ ‬العار‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬تصدير‭ ‬العنف‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬الفكر‭ ‬الضال‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة،‭ ‬العادات‭ ‬الدخيلة‭ ‬على‭ ‬أنظمة‭ ‬مستقرة‭ ‬حامدة،‭ ‬لم‭ ‬يتعود‭ ‬المشاهد‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬“حيلة”‭ ‬أبيه‭ ‬مفلسًا،‭ ‬ناقمًا،‭ ‬معتديًا،‭ ‬ولم‭ ‬يألفوه‭ ‬ملطخًا‭ ‬بوحل‭ ‬الرذيلة،‭ ‬ومواجهًا‭ ‬لمجتمعه‭ ‬الآمن‭ ‬البسيط‭.‬

أما‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬الابن‭ ‬الضال‭ ‬هكذا‭ ‬خالي‭ ‬الوفاض‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خطأ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شائعًا،‭ ‬وأن‭ ‬يعود‭ ‬بخفي‭ ‬حُنين‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬الأولين‭ ‬المنهوبة‭ ‬قوافلهم،‭ ‬والمسبية‭ ‬نسائهم،‭ ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬القادم‭ ‬أخطر‭ ‬وأشرس‭ ‬وأقل‭ ‬مقاومة‭ ‬لفكر‭ ‬تخلل‭ ‬ثنايا‭ ‬ضعفه،‭ ‬واحتل‭ ‬نصيبًا‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬قوته‭ ‬المتراجعة،‭ ‬وسيطر‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬حياة‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬قابل‭ ‬للتطور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قابليته‭ ‬لعمليات‭ ‬“غسل‭ ‬المخ”‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬يحتاج‭ ‬قطعًا‭ ‬ل”مكافحة”‭ ‬وربما‭ ‬مواجهة‭.‬

يتبع‭...‬