مكافحة الفكر الضال

| عادل عيسى المرزوق

فكرت‭ ‬طويلًا‭ ‬قبل‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المعترك،‭ ‬هل‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬تختلي‭ ‬بالمواطن‭ ‬أم‭ ‬إنه‭ ‬الذي‭ ‬يختلي‭ ‬بها،‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬سلوكه،‭ ‬أو‭ ‬المواطن‭ ‬هو‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬ترويضها‭ ‬بأدواته‭ ‬وموروثه‭ ‬ومكتسباته،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬غريزة‭ ‬التملك‭ ‬لدى‭ ‬الأفكار‭ ‬المتربصة،‭ ‬وتلك‭ ‬المتشبثة‭ ‬بالعقل‭ ‬المتردد؟

في‭ ‬النهاية‭ ‬اهتديت‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬مكافحة‭ ‬الفكر‭ ‬الضال،‭ ‬بالفكر‭ ‬الصائب،‭ ‬بالماهية‭ ‬نفسها،‭ ‬وبالمضامين‭ ‬ذاتها،‭ ‬بالآليات‭ ‬والأساليب‭ ‬وأدوات‭ ‬التعايش‭ ‬والتجهيز‭ ‬والإعداد‭ ‬لأجيال‭ ‬لم‭ ‬يفلت‭ ‬زمامها‭.‬

فكرت‭ ‬مثلًا‭ ‬أن‭ ‬مواجهة‭ ‬الدولة‭ ‬لتيار‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬ضالة‭ ‬كالتي‭ ‬نعتقد‭ ‬في‭ ‬قرار‭ ‬ذواتنا‭ ‬أنها‭ ‬خرافة‭ ‬للخارجين‭ ‬عن‭ ‬الطوع‭ ‬قد‭ ‬استقرت‭ ‬لدى‭ ‬النفر‭ ‬المهيمن‭ ‬عند‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬ارتأينا‭ ‬أن‭ ‬باب‭ ‬التوبة‭ ‬سيظل‭ ‬مشرعًا،‭ ‬وعقيدة‭ ‬الاجتهاد‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ضلالة‭ ‬“الجهاد”‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬إجراء‭ ‬المراجعات‭ ‬الدورية‭ ‬لها‭.‬

لكن‭ ‬ولأن‭ ‬المكافحة‭ ‬كحل‭ ‬وسط‭ ‬بين‭ ‬الوقاية‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬قد‭ ‬فات‭ ‬أوانها،‭ ‬والمواجهة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬وصفها‭ ‬بالمحطة‭ ‬الأخيرة‭ ‬تفرض‭ ‬إلقاء‭ ‬الذخيرة‭ ‬الحية‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الطريق‭ ‬والتنازل‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬حمل‭ ‬المصاحف‭ ‬على‭ ‬أسنة‭ ‬الرماح،‭ ‬والبدء‭ ‬فورًا‭ ‬في‭ ‬تنظيف‭ ‬فوهات‭ ‬المدافع‭ ‬من‭ ‬البارود،‭ ‬وحقول‭ ‬الألغام‭ ‬من‭ ‬المتفجرات،‭ ‬وحقول‭ ‬القمح‭ ‬من‭ ‬خيالات‭ ‬المآتة،‭ ‬وفخاخ‭ ‬العصافير‭ ‬البريئة‭.‬

إن‭ ‬عودة‭ ‬الفكر‭ ‬الضال،‭ ‬وقطع‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬قوافله‭ ‬المحملة‭ ‬بالكراهية‭ ‬والمرارة‭ ‬لابد‭ ‬وأن‭ ‬يتم‭ ‬ربطه‭ ‬بصيرورة‭ ‬المجتمع،‭ ‬دمجه‭ ‬في‭ ‬سلاسل‭ ‬فكرية‭ ‬أكثر‭ ‬استنارة‭ ‬وتنوعًا،‭ ‬إدخاله‭ ‬في‭ ‬ديمومة‭ ‬الحياة،‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الدواب،‭ ‬وفي‭ ‬استكانة‭ ‬التطور‭ ‬المتماهي‭ ‬مع‭ ‬الأشياء‭.‬

فكرت‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬مجتمعي‭ ‬فاعل،‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬مضادة‭ ‬للفكر‭ ‬الضال،‭ ‬وفكرت‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬تعليمية‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تنوير‭ ‬النشء‭ ‬وتربيته‭ ‬في‭ ‬المهد‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬التوجيه‭ ‬على‭ ‬الأجيال‭ ‬التي‭ ‬تستطيع‭ ‬الإدراك‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الاستدامة‭ ‬هي‭ ‬مربط‭ ‬فرس‭ ‬أي‭ ‬تحرك‭ ‬علمي‭ ‬وأي‭ ‬تقاطر‭ ‬جهوي،‭ ‬وأي‭ ‬اصطفاف‭ ‬مؤسسي،‭ ‬الجميع‭ - ‬تعلم‭ ‬وإعلام‭ ‬وصحافة‭ ‬وجمعيات‭ ‬نفع‭ ‬عام،‭ ‬ومؤسسات‭ ‬لها‭ ‬صفة‭ ‬انعدام‭ ‬القصد‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬التوجيه‭ ‬مبطنًا‭ ‬في‭ ‬قماشة‭ ‬قابلة‭ ‬للاستخدام‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬توجه،‭ ‬وللتعاطي‭ ‬مع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نوعية،‭ ‬بل‭ ‬ولتبادل‭ ‬الأفكار‭ ‬معها؛‭ ‬بهدف‭ ‬تحقيق‭ ‬الكشف‭ ‬المستدام‭ ‬لتوعية‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬تراود‭ ‬الشباب‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬تتسلل‭ ‬عنوة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭.‬

إن‭ ‬شباب‭ ‬اليوم‭ ‬مُعرض‭ ‬للاحتدام‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬مضى،‭ ‬وأنه‭ ‬قابل‭ ‬للاستجابة‭ ‬مع‭ ‬أفكار‭ ‬خارج‭ ‬“السيطرة”‭ ‬القيمية‭ ‬الذي‭ ‬تربى‭ ‬عليها،‭ ‬هو‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬أو‭ ‬يفلت‭ ‬من‭ ‬قيد‭ ‬ثقيل‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬ظل‭ ‬ظليل،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬وشاح‭ ‬له‭ ‬صفة‭ ‬التهليل‭ ‬والتبجيل‭.‬

ربما‭ ‬يكون‭ ‬جيل‭ ‬رافض‭ ‬للتقاليد‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬إرسائها‭ ‬بالمجتمع،‭ ‬ولذلك‭ ‬فهو‭ ‬يدعي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التقاليد‭ ‬لا‭ ‬تناسب‭ ‬مزاجه‭ ‬الخاص،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تساعده‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬بحرية،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تعينه‭ ‬على‭ ‬علاج‭ ‬مشكلة‭ ‬عويصة‭ ‬أثناء‭ ‬تأديته‭ ‬لواجباته‭ ‬اليومية‭.‬

إذًا‭ ‬السرعات‭ ‬التي‭ ‬يمضي‭ ‬بها‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬اللحاق‭ ‬بثورة‭ ‬المعلومات،‭ ‬وبالقوة‭ ‬الخارقة‭ ‬للتقنية‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬الحديثة،‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬السباق‭ ‬عادلًا،‭ ‬وقوانينه‭ ‬صارمة،‭ ‬ومخرجاته‭ ‬مقبولة،‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬بتمعن‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬المكافحة‭ ‬وليست‭ ‬المواجهة،‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬الفكرية‭ ‬الناعمة،‭ ‬وليس‭ ‬عن‭ ‬القدرة‭ ‬الإقصائية‭ ‬الشرسة،‭ ‬المواجهة‭ ‬بعد‭ ‬المكافحة،‭ ‬والوقاية‭ ‬قبل‭ ‬الاثنتين،‭ ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للمجتمع‭ ‬أن‭ ‬يتقي‭ ‬شرورا‭ ‬خارقة؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬للمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تتكون‭ ‬منها‭ ‬أطر‭ ‬الدولة‭ ‬المتقدمة‭ ‬أن‭ ‬تلين‭ ‬الخطوط‭ ‬العويصة‭ ‬لتصبح‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬لفكر‭ ‬متسلل‭ ‬عبر‭ ‬جماعة‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الخبرات‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يجعلها‭ ‬أكثر‭ ‬انسيابا‭ ‬في‭ ‬التحرك‭ ‬نحو‭ ‬عقول‭ ‬متفتحة‭ ‬بطبيعتها،‭ ‬متجاسرة‭ ‬بعنفوانها‭ ‬وشبابها‭ ‬وحيويتها،‭ ‬مستقبلة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وارد‭ ‬من‭ ‬كائن‭ ‬من‭ ‬كان،‭ ‬ومن‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬القناع،‭ ‬أو‭ ‬طول‭ ‬الذراع،‭ ‬أو‭ ‬تباين‭ ‬الطباع؟

للحديث‭ ‬بقية‭.‬