فجر جديد

الشرطي رقم “979”

| إبراهيم النهام

قبل‭ ‬30‭ ‬عاما،‭ ‬وبينما‭ ‬كنت‭ ‬ألعب‭ ‬مع‭ ‬إخواني‭ ‬عند‭ ‬“عتبة”‭ ‬البيت‭ ‬بمنطقة‭ ‬سافرة،‭ ‬بظهيرة‭ ‬يوم‭ ‬حار‭ ‬نسبيا،‭ ‬أقبل‭ ‬علينا‭ ‬والدي‭ ‬وهو‭ ‬عائد‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬أفتقدها‭ ‬كثيرا،‭ ‬لحظات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرتمى‭ ‬أخي‭ ‬الصغير‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬في‭ ‬حضنه‭ ‬وهو‭ ‬يقبله‭ ‬بحرارة،‭ ‬ويسأله‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬أحضر‭ ‬له‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬“البرادة”‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬

‭ ‬كانت‭ ‬ملابسه‭ ‬العسكرية‭ ‬مشبعة‭ ‬بالعرق‭ ‬الكثيف‭ ‬كالعادة،‭ ‬بعمل‭ ‬مرهق‭ ‬ومُجهد‭ ‬ومنهك،‭ ‬صعوباته‭ ‬كثيرة‭ ‬وحركته‭ ‬أكثر،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ - ‬بالمقابل‭ - ‬فخورا‭ ‬بعمله‭ ‬جدا،‭ ‬وكان‭ ‬يراه‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬غيره‭.‬

كان‭ ‬رقم‭ ‬والدي‭ ‬العسكري‭ ‬هو‭ (‬979‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬رقم‭ ‬قديم،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬الرعيل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الشرطة‭ ‬البحرينية،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬يستلم‭ ‬الراتب‭ ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬بالعملة‭ ‬الهندية،‭ ‬وبأن‭ ‬التأسيس‭ ‬كان‭ ‬صعب‭ ‬جدا،‭ ‬وبأن‭ ‬من‭ ‬التحق‭ ‬بالشرطة‭ ‬حينها،‭ ‬مر‭ ‬بظروف‭ ‬تدريب،‭ ‬وعمل،‭ ‬وتأهيل،‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬توصف‭ ‬به‭ ‬بأنها‭ ‬قاسية‭ ‬جدا‭. ‬

وفي‭ ‬حقبة‭ ‬الثمانينات‭ ‬والتسعينات،‭ ‬كانت‭ ‬ظروف‭ ‬العمل‭ ‬صعبة‭ ‬ومريرة،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬التدخلات‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬أوجها‭ ‬بعد‭ ‬وصول‭ ‬العمائم‭ ‬لسدة‭ ‬الحكم‭ ‬بطهران‭.‬

كانت‭ ‬تدخلات‭ ‬مباغتة‭ ‬وغادرة،‭ ‬وخوانة‭ ‬للجيرة،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الآن،‭ ‬وكان‭ ‬استهداف‭ ‬الشرطة‭ ‬حينها‭ ‬أسهل،‭ ‬وأكثر‭ ‬خطورة،‭ ‬وأكثر‭ ‬إيلاما،‭ ‬خروج‭ ‬الشرطي‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬قد‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يعود‭ ‬إليه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

وما‭ ‬بين‭ ‬أحداث‭ ‬وأخرى،‭ ‬وظروف‭ ‬ونكسات‭ ‬وتقلبات،‭ ‬كان‭ ‬والدي‭ ‬يحدثنا‭ ‬دوما‭ ‬عن‭ ‬شرف‭ ‬مهنة‭ ‬“الشرطي”‭ ‬بميدان‭ ‬التضحية‭ ‬والفداء،‭ ‬وبأن‭ ‬هنالك‭ ‬من‭ ‬قدموا‭ ‬أرواحهم‭ ‬قربانا‭ ‬للبحرين‭ ‬ولشعبها‭ ‬الطيب،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ترمش‭ ‬لهم‭ ‬عينهم‭.‬

كانت‭ ‬ملابس‭ ‬الشرطة‭ ‬حينها‭ ‬خضراء‭ ‬جميلة،‭ ‬تتدرج‭ ‬من‭ ‬اللون‭ ‬الفاتح‭ ‬إلى‭ ‬الغامق،‭ ‬كانت‭ ‬ألوانًا‭ ‬تميز‭ ‬حقبة‭ ‬زمنية‭ ‬أسست‭ ‬للحقب‭ ‬التي‭ ‬تلتها،‭ ‬والتي‭ ‬منها‭ ‬حقبة‭ ‬اليوم،‭ ‬أمن‭ ‬وأمان،‭ ‬ورخاء‭ ‬واستقرار،‭ ‬يقوده‭ ‬رجال‭ ‬البلد‭ ‬الأوفياء‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬معالي‭ ‬الشيخ‭ ‬راشد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬وزير‭ ‬الداخلية‭ ‬ومن‭ ‬خلفه‭ ‬أركانه،‭ ‬ومن‭ ‬خلفهم‭ ‬أيضا‭ ‬رجال‭ ‬ونساء‭ ‬كثر،‭ ‬أعينهم‭ ‬كلها‭ ‬على‭ ‬مصلحة‭ ‬البلد،‭ ‬وعلى‭ ‬طمأنينة‭ ‬أهلها،‭ ‬فشكرًا‭ ‬لهم‭ ‬جميعا‭.‬